- ضياف البراق
أغلب الأيام أصحو ظُهرًا من النوم، أنا كسول كبطلٍ أسطوري مرسوم على ورقة، أسهر الليل كله ثم أنام إلى منتصف النهار على ضفاف الأحلام الجميلة. أثناء نومي ينطلق خيالي تلقائيًا فأقرأ ما أشاء، وأكتب كيف أشاء، وأرقص مع أجمل نساء العالم. الخيال نعمة عظيمة، وخيالي يمنحني ما أريد. ناموا لساعات طويلة عندما تصبح حياتكم غير محتملة، فالنوم أنسبُ الحلول، هو مفتاح سِحريّ لدخول فردوس الحرية، إنه شرط الراحة الحقيقية، النوم فَنٌّ، إنه فن الخروج من عنق الزجاجة. لا أخاف من النوم العميق، لا أخاف على أموالي التي في البنوك والجيوب وتحت الوسادة والفِراش وبين صفحات الكتب، وإنما أخاف من الخوف نفسه، ومن نفسي أخاف أكثر، لا أخاف من شيء على ممتلكاتي الهائلة. بلا شك، السخرية تليق بكل شيء. فالحرية الحقيقية هي فن السخرية من العالَم بكلمات صادقة، أو بعبارات مقتضبة جريئة خفيفة الدم. وكل ما يفعله الإنسان لا بد أنه شكل من أشكال السخرية.
ما علينا من النوم والسخرية والخوف. أنا أريد أن أعيش مثل عشبة في الطين، مثل نهر أو بحيرة، مثل طير يحوم في السماء ويرقص فوق الأغصان الرائعة. لا أحب الحياة المثقلة بالتعقيدات والهموم اليومية واللقاءات التي لا فائدة منها. وأحب العلاقات البسيطة، والأشياء البسيطة، والحياة ذات المعاني البسيطة. وأيضًا، لا أحب الحياة المثالية، الحياة التي تسير بخطوات منضبطة، أو تلك الحياة المُبرمَجة الروتينية.
منذ سنوات كثيرة أصبحت أكره الانضباط، أضجر من الانتظام، أهرب من الالتزام، لا أخطط لشيء، وأميل من قناعة داخلية للعشوائية والإهمال في كل شيء. أهمل مسألة الوقت والتاريخ وأعيش حُرًّا خارج الضغوط والنماذج الجاهزة والعادات المألوفة. ولكن هناك حالات خاصة أو ظروف صعبة أضطر فيها للخضوع أو الاستسلام. فهناك، بين حين وآخر، واقع معقَّد لا نستطيع أن نُفلِت من شروطه، أو القفز عليها دون أن ندفع الثمن باهظًا. والواقع لا يغيّره الخيال، بل يُغيِّره الواقع نفسه، أو يغيِّره واقع آخر. على كل حال، هنالك لحظات مختلفة لا نستطيع التمرد فيها، أو عليها. هناك سجن ما في مكان ما لا يرحم أحدًا، ولا ينجو منه أحد. سجن للجميع، وفيهم جميعًا.
أعود وأقول إني إنسان عشوائيٌّ، قَلِقٌ أغلب الأوقات، قليل الاختلاط بالناس، ولكن مشكلتي هذه ليست بمؤذية، إنها لطيفة بعض الشيء. ثم إنّ طبعي الشخصي لا يخلو من نرجسية مقرفة، ولكنها نرجسية خالية من الفظاظة المفرطة. عيوبي كثيرة، مثلكم بالضبط.
نفسي لا تحتمل الضوضاء الخارجية حتى لو كانت ضرورية ومفيدة جدًّا. أكره الزحمة وكل الازدحامات. وبالنسبة لي، مخيف جدًّا الانخراط في ضجة الحشود، أو التماهي معها. أحب الفردية والفَرادة وقلةَ الظهورِ والبساطةَ في العيش. أحب طفولتي، باختصار. وأحيانًا أشعر بعدم جدوى المثاليات. وأحيانًا لا أشعر بشيء، حتى نفسي لا أشعر أنها موجودة بداخلي.
نمط حياتي غير مرتَّب ولا منظَّم حتى عندما يتعلق الأمر بالقراءة والكتابة. لا برامج ولا قوانين تنظِّم حياتي. بالطبع، لديّ شغف كبير تُجاه الحياة والمستقبَل، وأقرأ وأكتب دونما انقطاع، ولكنّي بعض الأحيان لا أشغل نفسي بأي شيء، وأفضِّل الانسحاب من كل شيء؛ ربما للحصول على لحظات هادئة منفردة تقودني بأي شكل إلى جحيم أفضل.
إني أعيش حياتي بأسلوب أشبه بالعبثي، هو خليط من التجاهل واللامبالاة وقلة الاهتمام والكسل والتسامح والقناعة. وكالعادة، أهربُ حتى من مشاكلي الصغيرة، لأن قدرتي على الصبر هشة وقصيرة، ولا أطيق الانهماك والاشتباك في أمور لا تخصني، أو في تفاصيل مبتذَلة. كسول أنا، ومتمرِّد دون تصنُّع، ثُمّ مبتذَل مثل ابتسامة يائسة من الفرح، أو مثل معدن مفرط في النقاء. لا أبحث عن طريق للاكتمال، ولا تُدهشني الفكرة الكاملة، أو اللوحة المكتمِلة، ولا أُقدِّم الكماليات على الضروريات. لا أريد ولن أسعى إلى الكمال. سأبقى كما أنا، وأعيش حياتي كما أحب، حتى لو لم تساعدني الظروف، بل حتى لو لم تساعدني اللايكات الحمراء والزرقاء، وقوانين الضغط والجاذبية، وبحور الفراهيدي، ونتائج ثورات الربيع العربي المُحترِق..
نعم، أجل، إيقاع حياتي غير مُنضبِط، وليس واحدًا، لي نمط آخر للعيش، نمط عبثيّ غير مقبول البتة بمعايير التنمية البشرية، لا أسير على إيقاع واحد، لا في الواقع ولا الخيال، وروحي القلِقَة لا تقبل القيود والحواجز والرتابة والتنظيم. إنّي أتأرجح دائمًا، أتأرجح بين اليأس والأمل، والفوضى والهدوء، والغموض والوضوح، والقليل والكثير، أتخبَّط بيني وبين كل شيء، وأعتقد أنني أحب الآخرين أكثر من نفسي، أو أستطيع ذلك ولكن بعشوائية. لهذا كله، حياتي ليست رديئة أو لم تصبح ساذجة حتى الآن.
حسنًا. لا بأس. لا مشكلة. إنني مع الحياة دومًا وأبدا. مع الحياة الحُرّة، فقط، ومن أجلها بكل جوارحي. كما أنني أحترم الموت العادل أو ذاك الخالي من صوَر البشاعة وألوان الرعب والوحشة. لقد صرختُ ذات أزمة نفسية قائلًا في وجهي الذي يشبه الفراغ “أنا هُراء، مجرد كومة واهية من الغبار، مجرد هذيان عابر كالسراب. أحلامي قليلة، وأعداء أحلامي كثيرون”. وقتها صرختُ أيضًا بأن جاري البلشفي لم يعد يفهمني، وأنه لم يعد يسكر حتى الثمالة، وأنه كذلك لم يعد يقول لي أي كلام طريف. لا ريب أنه يتعمَّد ذلك. فالصمت كما أظن أجدى أشكال المقاوَمة، وخصوصًا في مثل هذا الواقع العبثي الأعمى من كل النواحي. ولكن هذا الجار العزيز لا يزال ينظر إلى الحياة من قلب مفعم بالأمل، وفكر ثاقب ممتلئ بالحكمة، وروح حُرّة كنار مشتعلة. إنه جاري السبعيني الجميل، الذي يتصرف أحيانًا كما لو كان هو زوربا اليوناني بعينه، أو كما لو أنه مجرد لا شيء.
لنتصرف جميعًا مثل اللاشيء. دعونا نجرّب هذا الأمر ولو مرّة. فاللاشيء لا يموت ولا يشبه الموت. اللاشيء لا تؤذيه الحياة. واللاشيء هو الذي يحشر كل شيء في قلبي الصغير. واللاشيء هو كل شيء. نريد وطنًا مثل اللاشيء، يحتضن الجميع، ويتسع لكل شيء. فوطني هذا يخنقني دومًا. أنا مثلك يا فرناندو بيسوا، “لستُ ذا شأن”.