- كتب: عبدالله حيدره
في عام ٢٠٠٩ و أنا في الصف السابع، و تحديدًا في شهر مايو المحدد سنويا لبدء الاختبارات النهائية لكل عام دراسي، طلب منا أستاذ اللغة العربية، في الاختبار، كتابة تعبير عن «عيد الوحدة اليمنية»، و قد جاء اختياره لهذا الموضوع بالتحديد، لتزامنه مع عيد الوحدة التاسع عشر، الذي سبقته مظاهرات و قطع طرقات قام بها أنصار «الحراك الجنوبي السلمي» المُشَكَّل قبل عامين، للمطالبة بتحسين أوضاع العسكريين و الموظفين السابقين الذين أحيلوا للتقاعد، و كذلك لتحسين الوضع السياسي حفاظا على الوحدة، قبل أن تزداد حدة المظاهرات و مطالبها، حيث طالبت بالانفصال التام عن الشمال و إعادة دولة «الجنوب الديمقراطية»، لا سيما أنصار علي سالم البيض، آخر رئيس جنوبي الذي أصبح أول نائب رئيس لدولة الوحدة.
كانت تلك التظاهرات في أكثر من محافظة جنوبية، و تتجدد سنويا بين وقت و آخر، خصوصا شهر مايو، شهر إعلان الوحدة ٢٢ مايو١٩٩٠، و شهر إعلان «فك الارتباط» ٢١ مايو ١٩٩٤، بالإضافة إلى شهر يوليو الذي يوافق ذكرى نهاية «حرب الانفصال»، ٧ يوليو، الذي انتصر فيه الرئيس علي عبدالله صالح على خصومه الجنوبيين، محققا ما بات يسميه لاحقا “عيد الانتصار على المخربين الذين جعلوه يضطر لتعميد حلم الوحدة بالدم”.
حينها، و بدون أي كلمات إنشائية تمجِّد الوحدة انسجامًا مع المناخ العام السائد في القنوات الرسمية و الكتب الدراسية، بدأتُ كتابتي بالتفسير اللغوي لمعنى كلمة الوحدة، موضحًا أنها قد تأتي بمعنى «التوحد» الذي يناقض تماما المفهوم المنتشر بين العوام، و أن هذا المعنى يطلق على من يصابون بالإنعزالية و يفضلون البقاء وحيدين و بعيدين عن الكل، في حين قد تأتي الكلمة لتوضح مفهوم الاتحاد، الذي حتما لا يكون إلا بين شيئين أو أكثر، و شتان بين المعنيين.
بعد هذا، انطلقت في كتابتي للموضوع مبتدئا بنقضي لكل ما أَلِفَتْ سماعه أغلب الآذان، و هي الفرضية التي تقول أن اليمنَ موحدٌ عبر الزمن لولا تعرضه لأكثر من استعمار، و أن من يسعى للانفصال ليس سوى مخرب و يخدم أطراف خارجية و لا يفهم بالتاريخ.
لقد تعارضت مع تلك الفرضية بقولي “إن اليمن لم يكن موحدًا تعرض للتقسيم” ساردًا الكثير من الحقائق و الوقائع التاريخية، و أبرزها وجود الكثير من الدول في العصر اليمني القديم، أبرزها حضرموت و قتبان و أوسان و معين و سبأ و حميّر، و رغم أن بعضها كانت تأتي نهاية دولة سبقتها، فتقوم على أنقاضها، لكن التاريخ شهد تواجد أكثر من دولة في نفس المرحلة، و هو ما تثبته النقوش التاريخية التي تتحدث عن ذلك و أهمها «نقش النصر» الذي يوثق انتصار الملك (كرب إيل وتر) على خصومه، و نقشٌ آخر يتحدث عن درب أسعد الكامل بأنه استطاع توحيد دول و ممالك اليمن تحت سلطته، منها يمنات و ذو حمير و حضرموت، و كان ذلك في القرون الأولى من التاريخ الميلادي، و هو من يعتبره المؤرخون أول من وحد اليمن، و هو ما يخالف نظرية «اليمن الموحد تاريخيا»، إذ أن اليمنيين قد شهدوا ظهور حضارات و دول قبله، بغض النظر عن الاستيطان الحقيقي للأرض الذي يرجع لآلاف السنوات السابقة.
سردت ذلك مذكرا أن اليمن قد تعرض للكثير من الغزوات و الاحتلالات التي كانت نتيجة للانقسامات و الحروب البينية بين الدول اليمنية، منها الغزو الروماني و الحبشي و الفارسي، إلى أن جاء عصر صدر الإسلام الذي شهد نوعًا من الاتحاد تحت راية الإسلام، نتج عنه توزع القادة و المحاربين اليمنيين في أصقاع مختلفة من الأرض ممتدة بين الصين شرقًا و فرنسا غربًا، و بعد فترة قصيرة عادت الانقسامات من جديد و بصورة أكثر دموية مما كانت عليه قبل الإسلام، حيث برزت دول صغيرة تتميز بالمناطقية و السلالية، أهمها الدولة الزيدية و الرسولية و النجاحية و الصليحية و الطاهرية، إلى أن جاءت الاحتلالات البرتغالية و العثمانية و البريطانية في العصر الوسيط،الذي شهد انحسار النفوذ الإسلامي و بداية عصر النهضة الأوربية، و هو ما ساهم بتكريس التشرذم، خصوصا في الاحتلال العثماني الثاني نهاية القرن التاسع عشر، الذي أسس تسمية (اليمن الشمالي) مقابل دولة أخرى يحتلها البريطانيون (اليمن الجنوبي).
بعد ذلك، ذكرت، ما جرى بعد خروج الاحتلالين من تأسيس دولتين مستقلتين، ففي الشمال، وُجِدتْ دولة ملكية بدأت ١٩١١ و انتهت مع بداية العهد الجمهوري ١٩٦٢، و في الجنوب تأسست دولة جمهورية بطابع اشتراكي ١٩٦٧، و في عهد الدولتين الجمهوريتين استمر الانقسام، الذي وصل حد الحرب بين الدولتين الوليدتين، حروبٌ كانت تشهد نهاياتها توقيع اتفاقات لتفعيل و تسريع إعادة توحيد الشطرين، منها اتفاقيات القاهرة و طرابلس الغرب و الجزائر و الكويت، و بعض الاتفاقات الموقعة في أكثر من مدينة يمنية، قبل أن تتحقق الوحدة باتفاق عدن التاريخي ٣٠ نوفمبر ١٩٨٩ الذي أفضى لقيامها في ٢٢ مايو ١٩٩٠.
وحدة لم تات بما كان متوقعًا، خصوصٕا بالنسبة لقادة الجنوب الذين أعلنوا إعادة قيام دولتهم السابقة عشية ذكرى عيد الوحدة الرابع، بعد شهر من اندلاع شرارة الحرب بين الحليفين من محافظة عمران الشمالية، التي شهدت قتل عدد كبير من الجنود الجنوبيين المتواجدين في لواء المدرعات، بعد قرار دمج القوى الأمنية و العسكرية للدولتين السابقتبن، الأمر الذي أدخل البلد في حرب ضروس كلفته آلاف القتلى بالإضافة لخسائر عسكرية و اقتصادية بالمليارات، نتجت عنها خلافات سياسية و اختلالات أمنية و أضرار جتماعية جعلت المواطنين في جنوب البلاد يسخطون على النظام القائم و حلفائه من القبايل و الأحزاب، ليزداد بعد الانتخابات الرئاسية و المحلية نهاية ٢٠٠٦ التي فاز فيها الرئيس علي عبدالله صالح بدورة رئاسية جديدة، و سيطرة حزبه على الغالبية في المجالس المحلية.
ختمت كتابتي بالحديث عن أهمية تلك الوحدة لليمن و أنها بادرة خير لما يتطلع إليه كل العرب في سبيل تحقيق الوحدة العربية الشاملة للحفاظ على أمنهم القومي و محاربة الأعداء المتربصين بالأمة.
ما كتبته جعل أستاذ المادة صبيحة الاختبار التالي يسأل ضاحكًا “لم تكن اليمن موحدة يا حيدره؟!” فرددت عليه ابتسامة صغيرة فقط، لأن أمامي ورقة اختبارٍ آخر محدد زمن الإجابة عنها.
لم أزد، هنا، على ما كتبته حينها إلا بعض التواريخ التي تؤكد ما كتبته، أما الآن، و بعد ١٣ عامًا، فما زلت على تلك القناعات، مع إضافة أخرى هي أن الوحدة التي تمناها جميع اليمنيين، شابها الكثير من الأخطاء نتيجة التسرع في تنفيذها دون دراسات محكمة، حيث جاءت نتيجة عواطف تارة و ضغوط خارجية تارة أخرى، فهي و على الرغم من توق اليمنيين للوحدة، و وضعها كأبرز أهداف الثورتين (سبتمبر) شمالًا و (أكتوبر) جنوبًا، و كمية و نوعية اللقاءات المتسارعة للتشاور و الإعداد لتحقيقها، إلا أن بداياتها الحقيقية كانت بعد أيام من سقوط جدار برلين، نوفمبر ١٩٨٩، الذي كان يفصل بين ألمانيا الشرقية ذات التوجه الاشتراكي، و بين ألمانيا الغربية الرأسمالية. ذلك الحدث الذي غيّر العالم، أدى إلى أفول الاشتراكية، و بداية تفكك الاتحاد السوفيتي، و هو ما استشعر خطورته قادة اليمن الجنوبي الذين كانوا أكثر إصراراً و تسريعًا لتحقيق الوحدة، خصوصًا بعد إيعاز قادة السوفيت لنظرائهم الجنوبيين، بضرورة حدوث ذلك، كي تُبقي لها متعاونيين في المنطقة، خشية أن يسيطر الشمال عسكريا على الجنوب، و هو الذي زاد قربه من المعسكر الرأسمالي بأكثر من مجال و لاسيما بعد إعطاء الأفضلية لشركة «هنت» الأمريكية، لتنقب عن النفط في الشمال، و الذي اكتشف عام ١٩٨٤، و إلى جانب توجه السوفيت، كان الأمريكان، كذلك، موافقين على هذه الخطوة، لضمان مصلحة السعودية، التي أقنعتها مؤخرًا بأن وجود يمن موحد يعد خيارًا أفضل من يمنين أحدهما بتوجه اشتراكي ماركسي، تختلف معه في كل شيء تقريبًا و خاضت معه حروبًا مباشرة.
كل تلك المعطيات قادت للوحدة، و كان مقترح الرئيس الشمالي علي صالح بإقامة دولة وحدة فيدرالية، فيما قدم نظيره الجنوبي مقترح قيام دولة بوحدة اندماجية، و هو ما تم بالفعل، و هو أحد أهم الأسباب التي أنتجت خلافات عديدة بين الحليفين بعد تحقيقها، ذلك لأن الوقت الذي تحققت فيه لم يكن كافيًا لإنجاز هذا النوع من الوحدة.
و في مشاهد زيارة صالح لعدن كان الجنوبيون يملؤون الشوارع ترحيبًا به و بالوحدة، فكان «نجم السهرة» حينها، لدرجة اختفاء الرئيس البِيض و كأن صالح هو الرئيس الفعلي منذ زمن، مشاهد تنقلاتهم و حديثهم للصحافة يوحي بأن السيطرة ستكون للشمال القوي برئيسه، على حساب جنوب مهزوز الشخصية، لولا تدارك البِيض ذلك، حين عقّب على حديث صالح للصحفيين، فكلامه و طريقة الحديث أظهرت شخصية رصينة واثقة متأنية و أكثر تعقلًا من قرينتها، بعكس مشاهد الفيديو.
لقد كان الشعبان و قياداتهما و من خلفهم الأمة العربية يرغبون بقيام الوحدة، و كان الجنوب أكثر رغبة بها، قيادة و شعبًا، و أبرز ما يؤكد ذلك هو نتيجة الاستفتاء على «دستور الوحدة» عام ١٩٩١، الذي أيّده ٩٩.٥٪ من الجنوبيين، مقابل ٩٣.٥٪ من الشماليين بسبب معارضة حزب الإصلاح لها، و مقاطعة قواعده الاستفتاء على دستورها.
من يرى تلك النتيجة، و يرجع لقراءة أحداث ما قبل الوحدة، محليا و عربيا و عالميا، يدرك أن ما بني على يد العاطفة و تأثير الغير، لا يكتب له النجاح، و أن المطبات لن تخلو من طريقه، لأن “ما بني على باطل، فهو باطل”، و عليه فأن إجراء مزيدًا من الدراسات حول خيار الأقاليم الذي انبثق عن مؤتمر الحوار الوطني، و إجراء استفتاء لذلك، يبقى من أفضل الحلول المتواجدة حاليًا للحفاظ على دولة متحدة و واحدة، و أن رآها الكثير”تمزيق الممزق” و رآها آخرون “تمزيق الموحد” إلا أنها مناسبة، لا سيما في هذه المرحلة التاريخية و هذا الجيل الذي وصل فيه الاحتقان الاجتماعي و المناطقي و العرقي لأسوأ مراحله، و فاقت خطورته خطورة الاحتقانات السياسية و الأزمات الاقتصادية بكثير.