- طارق السكري
في هذا الصباح سأترك الرياضة ، وعزف العود ، وشرب القهوة ، ومراقبة أول خيوط للشمس ، وأتفرغ من كل شيء مما في يدي وقلبي وعقلي لآخذ صوتك إلى حضني وأستخرج منه نوتة جديدة للقمر وزورق الشعر .
شهيّ صوتك جداً .. كحديث النهد السكران
لقد تشنَّجت يدي وأنا أعانق صوتك !
لقد تذكرتُ المُهر الأندلسي .. لا أدري لماذا تذكرت المهر الأندلسي وأنا أكتب عن صوتك ؟!
مع أني لم أر مهرا ولا أندلساً !
دعيني أهجس كاالشعراء بوصف صوتك وألوّح بيدي :
لقد تذكرت الشذا ، وهمسات النخيل ، وومضات النجوم إن صوتك كل شيء .
حسناً . أجدني مضطرا لأن أقف متسائلاً من باب تشتيت الدخان الذي على الرأس لماذا عندما نُعبِّر عن حميميّتنا للمرأة نلجأ إلى الحيوانات فنشبه قوامها الرشيق بقوام الغزال وعيونها الواسعة بعيون البقر الوحشية ؟
قالوا في تركيب الصورة الشعرية أن جانبا كبيرا من الصورة الشعرية يقوم على جانب حِسِّي . فالذي في أذهاننا من صور وتخيلات ماهو إلا انعكاس لما شاهدته العين وأدركته بقية حواسنا أثناء تأملاتنا في الطبيعة . صحيحٌ أن هذا التعريف للصورة الشعرية ورد في حقل الفلسفة أولاً ثم انتقل فيما بعد إلى الحقل البلاغي ..
ولكن لماذا الحيوانات والطيور هي مايقوم عليه معجمنا الوصفي أو الشعري رغم أننا في عصر التكنلوجيا وغزو الفضاء ؟
إن الذين يرموننا بالوصفية والشرود إلى الطبيعة وضيق الفكرة إنما هم في الحقيقة أسرى الحياة الأدبية في الغرب .. تلك الحياة التي هي مرآة تعكس صور حياة الناس المادية ! وكثيرا ما شكا النقاد الغربيون من الأدب الانجليزي المعاصر .. الشكلي وصوره الشكلية أيضاً .. أدب شكلي غريزي واقعي .. سطحي .. لايقرأ ما وراء العيون ولا يكلف بأسرار الجمال ولا يعترف بالحب كقيمة عليا !البيئة الصاخبة بالجنس والمال والخمر .. أدب التكنلوجيا والإنسان الآلة !
إن الطبيعة الخلابة بكل مكوناتها هي الروح النابض في الكلمة وهي فينوس الشاعر التي تعطي العمل الأدبي جواز سفر للعبور إلى كل مكان ، وتمد العمل الأدبي بهالة من الوحي والغموض الشفاف والغرابة المدهشة .
فليس غريبا أن تكون الطبيعة جزءاً من تشكيلنا الشعري ونظامنا الروحي الداخليّ خاصة لمن ولد في أحضان الطبيعة ولا يزال حبيسا في براويزها .
وليس من الذكاء أن نقول أن الطبييعة في العمل الأدبي تختلف عما هي عليه في الخارج!
لقد رأت العين الشاعرة في الغزالة شيئاً رومانسياً شد إليه الانتباه ، فهناك الرقة التي تكاد من لطفاتها أن تكون ماءً ، وهناك البراءة التي تشبه الطفولة إلى حد كبير ، وهناك الرشاقة التي تشبه رشاقة الفتيات ، وهناك في أعماقها توجُّسٌ يُشبه توجُّس الإنسان من المجهول .. إنها تتألم وتبكي .. وتمرح وتنتشي .. إنها بمجمل صفاتها ظِلٌّ آخرٌ هو نحنُ !شيءٌ يذكرنا برسائل العشق والحنين .
إننا أمام حالة وجدانية تعتمل في عالم الأحساسيس والخيالات والرؤى بعيدا عن صخب السياسية وضجيج طبول البورصة .
الحالة الشعرية حالة إطْراقة وذهول لسماع شيء قادمٍ من الغيب يشبه خرير الماء في قلب السحابة ماهو هذا الشيء الذي يُجنِّح في البعيد ؟ خيالاتٌ تموج ، وأبعاد تترامى ، وصفحات ملونة.
إنه عالم جديد قائم على أنقاض هذا العالم المتهالك في محاولة منه لزعزعة الفوضى بفوضى خلاقة عمادها الكلمة البليغة والأسلوب الرفيع .
إن الشاعر الذي لايتخرج من مدرسة الطبيعة شاعر ضعيف .. وهذا يذكرني بطفل القرية في رواية مواسم الهذيان للكاتب البليغ / طه ثابت الذي غادر القرية يافعاً مشبعا بحب المغامرة واكتشاف ما وراء الجبال مسكونا بالشغف والطبيعة وهو يستقبل أضواء المدنية عبر المطارات والقطارات .. يقرأ الوجوه والأفكار .. ويتأمل في الألوان والأشكال .. يستنطق الأبراج والصالات التي تعج بالفساتين والحرير .. ويتأمل في فنجان القهوة التواريخ والحضارات .. ولكنك ترى روحا متماسكة وقلبا راسخا وعشقا وفيا لأول ضوء تلقَّاه في الوجود . ضوء القرية أصوات الديكة في البكور ، والمواشي والسواقي في الوديان ، ولايقف حواره الداخلي مع محبوبته هناك على سقف الدار .
تسقي من عيونها الرياحين والمشاقر ، وتطلق من أكمام يديها الشحارير والحمائم .
وعلى الرغم من ذلك
يكذب من يقول أن الروح أهم من الجسد ! فما قيمة القمر إذا كانت السماء عاصفةً بالغبار ؟! وماقيمة خرير الجدول ، إذا كان الجدول آسِناً غير نقي ؟!
إن المدخل إلى أسرار العقول يتم أولا عن طريق الجسد ..
الجسد في وطننا مشبوه ومطرود ..
الجسد في عاداتنا لعنة وشؤم ..
الجسد في مجتمعنا يصرخ ويبكي ..
لقد عانى جسدنا من سلطة الروح كما عانى الهنود الحمر .
من أين تخرج دلافين القمر ؟!
من أين تخرج الأشجار ويقبل الربيع ؟!
من أين تأتي طبيعة الموسيقى ؟!
إلا من هذا الجسد العاري .. لقد صار للمدن والسماء والطيور قيمة لأن الجسد انفعل بهذه الأشياء ، وترك على كل شيء أثراً .
إنها لولا الجسد سديما .
إن جسدك مثقف جداً .. أحببت السير في تفاصيله ، وملامسة أوتاره ، ومطاردة الألوان الخفية .. أحببت تعليمه بعض المهارات التي عدت بها من جزر البحر .
أرأيتِ ؟
أردت فقط أن أقول لك : صباح الخير فصارت هذه المقالة !
قالت الأشجارُ :
أنت السّوسنةْ .
قالتِ الأعشابُ :
أنت نسيم ساعاتِ الهطول ووقْعهُ ماأحسنه !
قالت الأشياءُ :
أنت لكلِّ فاتحةٍ صباح .
فلعينيك الصباح الخالد ، وحبي المبتكر