- كتب: مصطفى ناجي
في العشرية الأخيرة، زاد عدد اليمنيين في تركيا لظروف طارئة وهي زيادة مفاجئة تحت ضغط الحرب وتداعيتها. وعليه ينبغي التكيف مع الوضع الجديد والاندماج وقد يصل الأمر الى إعادة تسمية الأماكن لخلق ألفة معها. لا توجد لدي دلائل كثيرة على هذا الأمر. لكن انتشار المطاعم اليمنية وسرعة اغلاقها أمر لافت ومنبه إلى نوعية التكيف والاندماج والقدرة على المجاراة في مسلك تجاري صحي معقد ومتطلِّب. هل يكفي ان يكون طعامك لذيذ؟ أم عليك أيضا العناية بطريقة تقديمه وتقديم قيمة مضافة غير الطبق. بمعنى آخر، ما هي نوعية الحياة التي يمكن إعادة انتاجها في بلد الاغتراب؟ وهل عليك الاكتفاء بجمهور يمني أو خليجي أم عليك إستهداف جمهور غيره خصوصا الجمهور المحلي والتوافق مع شروطه وذهنيته؟.
لكن ما لفت انتباهي هو حالة ظريفة حيث يعيد الناس تسمية الأماكن بما يألفون ويمنحهم معنى. لقد وجدت بعض الأصدقاء هناك على سبيل المثال يطلقون على إحدى الدوّارات المرورية “جولة العليمي”، يعرف الأصدقاء هناك سرية التسمية وسأتعمد إبقاءه سراً بيننا.
…
كما قلت إن رحلتي بدأت طريفة. ما إن دخلت الطائرة أبحث عن مقعدي فإذا به يقع إلى جوار سيدتين سافرتين وأنا في المنتصف. لكن إحداهن وهي الأكبر سناً تنازلت عن مقعدها واقترحت علي أن تجلس في الوسط وتترك لي الكرسي الواقع على الممر. شكرتها على لطفها وجلست انتظر بتوجس لحظات الإقلاع اخاتلها بتصفح الهاتف وارسال اخر الرسائل إلى الأهل والأصدقاء قبل أن أغلقه امتثالاً لإرشادات الطيران. في لحظات الإقلاع، أجلس رصيناً كما يجلس بوذي مبتهل أو ممارس يوغا مؤمن، بينما كانت السيدة المجاورة لي قد اغمضت عينيها واخفت وجهها بين كفيها الصغيرين تتمتم بلغة لا أفهمها. لا أدري كيف تدشّن الحديث بيننا بعد دقائق، كانت الرغبة في نسيان التحليق وارهاصات ما يسمى بالمطبات الجوية أكبر من التحفظ أو الحفاظ على السكينة.
استمع إلى قصتها بعناية.
أخبرتني أنها تركية كردية تعيش في فرنسا منذ 38 سنة. جاءت شابة يانعة أقل من العشرين، لم تدرس الكثير، وعملت في اشغال عديدة وانتهى بها الأمر إلى أن تعمل في مطعم تركي في باريس قرب محطة الشرق. تعمل كمساعدة طباخ وأشارت نحوي بكفها الذي عركته السكاكين وأملاح الطعام ومخللاته.
حكت لي أنها ذاهبة لتسوية أمر عائلي في تركيا ولديها رحلة بعد هذه الرحلة لأكثر من ساعة، لديها طفلان إحداهم فتاة تعمل مساعدة طبيبة عيون متزوجة من مارتينيكي أسود، أكدت على أنه لا يهمها لون بشرة وزج ابنتها طالما وهي سعيدة وأردفت: في فرنسا الأطفال يختارون حياتهم وليس للآباء أن يفعلوا شيئاً كبيراً. لكنها سعيدة بالحفيدة.
كانت سيدة تقارب الستين من العمر ما تزال تتكلم بفرنسية مكسرة ولا تعرف من تركيا الا مدينتها الصغيرة في الشرق التركي حتى أنها لا تعرف اسطنبول، سردت لي تفاصيل كثيرة ومقارنات بين الحياة في تركيا وفرنسا، وكيف أنها أنتقلت من ريف كردي بسيط إلى الحياة في عاصمة مزدحمة لا تنا، وتحدثت عن موقع المرأة في المجتمعين.
باغتتني بسؤال: من أين أنت؟ قلت لها من اليمن، فتذكّرَت أغنية تركية حزينة عن المفقودين العثمانيين في اليمن، أخبرتني أن اليمن اسم له مكانة غائمة في ذاكرتها لكنها تتوقع ان وزجها وهو أكثر معرفة منها بالدين والمجتمعات قد تحدث بإيجاب عن اليمن. وسألتني: هل انت سني أم شيعي؟ قلت لها: من اليمن، ابتهجت وقالت: نحن نبينا علي. هززت لها رأسي والكمامة تخفي ابتسامتي: قلت: لها هذا أمر سار.
اخذتها نوبة السرد وحدثتني بحرقة وغضب أمومي نصوح عن حماقات أخيها الكبير في فرنسا وكيف انه بعد أربعين سنة من الزواج والانجاب قرر الانفصال عن وزجته وبعد رحلة تعنيف تدخلت الشرطة. مُنِعَ عليه الاقتراب من زوجته والاحتكاك بها وتخلى عنه اطفاله لمشاكله الكثيرة وعطالته. الزمته الشرطة بعدم مغادرة فرنسا والتحضير في قسم الشرطة من حين لآخر، وقالت تلوح بيدها نحوي: عندما لا تكون قادراً على جلب المال إلى البيت عليك على الأقل أن تجلب الهدوء وحسن الأدب! لا ينفع أن تكون بلا مال ولا أدب.
يبدو أنها سيدة ذات دهاء. قالت لي: أنا أعرف أنه في الغربة يحتاج الواحد منا سنداً له. ما أصعب ان تعيش بلا جدار يسندك في الحياة!. “لقد قلت لأخي أني لن أتركه وابنتي ستتولى معاملاته. لكن عليه ان يتحلى بالصبر والأدب!”.
لم يفعل غادر فرنسا إلى تركيا فأعدته مهددة إياه بأن فرنسا ستطلبه أمنياً وتشدّد عليه العقوبات. بعينين بارقتين بالظفر قالت: ارجعته الأسبوع الماضي وسأذهب الآن هناك لأرتب ما لدينا من تركة خشيت ان يبيعها ويتصرف بها بجنون ويحرمنا من خير آبائنا.
اعتذَرَت لأنها أرهقتني بقصتها الحزينة وعرَضَت علي ترضيةً علكة تركية بيضاء بنكهة النعناع بيضاء اللون خالية من السكر حجمها أكبر بقليل من المتوسط المعتاد. قبلت منها العلكة وانهمكت في علكها فاذا بها تتعاظم في فمي بعد ربع ساعة شعرت بشد عضلي في فكي. كان وقت الهبوط قد حان. توقفت عن العلك استعداد لهبوط عنيف كما المرة السابقة.
- يتبع …
مع بعض صور التي ألتقطتها