- كتب: مصطفى ناجي
جررت أيام منذ ان عدت من رحلتي الأخيرة من إسطنبول. وكنت انوي الكتابة عن بعض إنطباعاتي لكن مع مرور الوقت والتكاسل من جهة والانشغال من جهة أخرى نسيت الكثير، وتراجعت الرغبة عندي إلا أن بعض المواقف ما تزال أكثر رسوخاُ في ذهني عصية على النسيان ولهذا رغبت في العودة إلى الكتابة عنها.
في رحلتي الأخيرة لم أقطن وسط المدينة إنما اتخذت موقعاً في الطرف الغربي من المدينة، في ضواحٍ جديدة شيّدت على أراض بور أو سهوب ومزارع فإذا بها أبراج مشيدة مسوّرة وعالم جديد متنوع يحمل سمات المدينة الجديدة حيث الحماية عالية والفردانية في أعلى سقوفها والأنسان ضئيل أمام الآلة والبنيان.
هذا النوع من المدن المسورة City يفتقر إلى عفوية الشارع كما هي المدن العتيقة، حيث الأزقة نفخ جديد في روح المكان واكتشاف متكرر. المسافات في هذه الأحياء السكنية هندسية متباعدة محكمة الحساب. أنا أحب المشي، لكن السير على الأقدام هنا ولاّد للوحشة رغم العناية بالمكان. ليست وحشة ناتجة عن الافتقار للأمان بل العكس وربما لفرط إجراءات الأمان. انما وحشة الإحساس بالمكان حيث امتداد الأسوار أكبر من قدرة القدم على الخطو وهنا تستدعي الآلة الآلة، وتتحول السيارة إلى ضرورة. تتعجب حين تعرف أن هذه المدن التي بتعددها صارت تضمن ملايين البشر هي ليس أعمر من سبع سنين على سبيل المثال. وهذا يشير إلى ازدهار الحياة في تركيا عموما وفي إسطنبول على وجه الخصوص.
بالمقابل، وبما أن أصدقاء كرماء وفروا لي سكن بينهم، كنت هذه المرة أقرب إلى أصدقائي ومعاريفي والى أصدقاء اكتسبت معرفتهم مؤخراً وكانت فرصة أن ألتقيهم كل يوم. بالنسبة لي كانت أيامي تمرينا في العلاقات والتواصل وتمرينا لغويا حيث سأتحدث بثرثرة باذخة طوال اليوم وبالعربي على عكس ما افعل في فرنسا حيث يسود الصمت أكثر من الحديث ولا يمزق أشداقه سوى محادثات محدودة عائلية أو اتصال هاتفي قادم من البعيد وربما من البعيد جداً.
لكن هذا القرب ضمن لي ان أُدعَى كضيف شرف إلى وجبات لذيذة وبهذا صرت احتفظ بعنوانين ليمنيين في إسطنبول يمكنك ان تذوق أشهى وألذ ما يمكن من طعام يمني ولولا خشيتي ان تتكدس عليهم الطلبات لذكرت أسماءهم لكني سأكتفي بشكرهم على كرمهم وحفاوتهم وطعامهم المميز والذي أسهم بعضهم بالدعوة الكريمة لكن بالطبع وزوجاتهم تكرمن بصنع طعام لذيذ.
ربما لا يعرف أصدقائي أنى أحب في العزائم اللمات والجمع وجو الطعام أكثر من شهيتي للطعام عينه، خصوصاً بعد ان تحولتُ مع الوقت من كائن “خُلِقَ ليفترس” وصاحب سمعة سيئة في الأكل إلى كائن يحرص على طعام معين بمقادير معينه ولم يعد يسابق الريح إلى العزائم الباذخة. لكن روح الطباخ داخلي توفر لي فضول التذوق واستحسان الطعام المقدم والامتنان.
كما ان الحياة في عزلة المدن الغربية التي تباعد بين منازل الاصحاب تجعل العزائم متباعدة زمنياً وليست مما جرت عليه الأيام. ناهيك عن البعد الاقتصادي في المسألة. لقد نالت منا فردانية الحياة الغربية بعض الشيء. إن أكرم ما تقدمه في الغرب لصديق أو معروف او لشخص ما هو الوقت. بعض من روح الشرق يتسرب دون إدراك.
رحلتي هذه التي صادفت ايام مطر وثلوج وبرد شديد على عكس الجو الذي كان قد استقر في فرنسا لأيام، تميزت بثلاثة مواقف بدأت من طائرة الذهاب من مطار شارل ديغول وحتى العودة. تعكس هذه المواقف عمق الطباع الإنسانية في كل شعب. وان الشعوب أكبر من التنميط وينبغي التأني في إصدار الأحكام على الناس. وأن اللغة هي بناء أو صورة صوتية بينما المشاعر، أكانت حبا او كراهية، تصل رغم حواجز الحرف أو الصوت. ثمة سر كبير في الكائن البشري والإمساك بهذا السر هو رحلة بحث دائمة تعوقها كثيراً التجارب السابقة والصور النمطية والفوارق الثقافية والسلوك الشخصي والتكوين النفسي. لكننا متشابهون في خيرنا وشرنا تماماً.
- يتبع ..
مع بعض الصور التي ألتقطها