- ضياف البراق
إلى صديقي شهيم عبدالله:
والآنَ،
سأبدو أمامك
كريشةٍ سقطتْ من جناحٍ حزين،
كمجازٍ بسيط يعوي على عتبات نَصٍّ مهجور،
كصوتٍ خائفٍ يحاول النجاة،
فيتعثّر بشوكة في الطريق،
ككلبٍ مُشرَّد بين السماء والأرض..
سوف أنجو من هذه الطواحين،
وأرقص وحدي،
لكنك ستكون بجواري، وترقص معي.
في الخارج، ربما مطر غزير يغسل الشوارع من هموم وسموم المارّة. وبالطبع، ليس لائقًا بك أن تضجَر مني وأنا أحدّثك عن مشهد سخيف كهذا. احتملني قليلًا، هنا، وكأنك تحتمل قلبك المُثقَل بالشجون بعد منتصف الليل إلى ساعة الفجر. في هذه اللحظة، ستراني واقفًا في النافذة، كعادتي، أَنظرُ إلى صورة الحياة وهي تنسحِق تحت أقدامهم الثقيلة، المُغفَّلة، وأضحك بهدوء، دون أن أمسح آثار دمعي من الوجه.. وأحس أيضًا أن وجهي ينسحِق هو الآخَر.. لستُ قلِقًا على شيء، فهذا القلب اللعين، والذي يحبك، أصبح لا يعني لي شيئًا. الأسوأ من هذا الملل الجميل، وهو ينتابني باستمرار، هو أنني الليلة ماكث عند صديق عزيز في غرفة باردة جدًّا، وأنا أكره جميع الأماكن الباردة، والمشاعر الباردة، تمامًا كما أكره غُرَف وصالات المستشفيات.. لكن، أجمل ما في حياتي، في كل وقت، وحاليًا خصوصًا، هو إدماني على راديو هاتفي المحمول..
لديهم في كل حارة “حُرَّابي” خطير، يجري وراءك ولا تراه، يترصّدك، يختفي فيك من حيثُ لا تدري، يحصي أنفاسك، يكتُب ذهابك، يرسم إيابك، إنه مخلوق تافه إلى أقصى حدود التفاهة، به حقد شديد على الحرية، أي به حقد نشيط على الفضيلة، هو شبحٌ مثلنا، لكنه يفكر بطريقة بائخة وغريبة، ويعيش بهذا الأسلوب القبيح البائس، يلتقط وجهك المكشوف، من أقرب زاوية ممكنة، وينحته بدقة متناهية، في دفتر التقارير، هكذا يفعل بك، باستمرار، ولهذا السبب البسيط، لا أستطيع النوم إلا وأنا واقف على القدمين، واجِفًا، مُرتجِفًا، فالنوم وقوفًا ينفعك في هذه الحالة فقط، نَعمْ إنه طقسٌ ضروريّ فُرِضَ عليك، وعليك أن تمارسه، وتواظِب عليه، للإفلات من عيون الشبح، ومن سطور التقرير، والاختفاء من لدغاته المنتشرة في الهواء، مثل غازٍ سامّ..
دعني أكررها أمامك: سئمتُ الحياةَ من فرْطِ ما نمتُ مع شبحي البائس، في ظلال وحدتي المخيفة، أنا الآن بحاجة قصوى إلى امرأة تنقذني منّي، إلى أنثى ملائمة تقتسم معي كل شيء، وتشتعل بداخلي في كل وقت، تلتهمني بذراعيها وصدرها وضجيجها الناعم، وتسير بجواري حتى حين أمضي في غياهِب اللغة والفكر..
أنا لا أصحو ولا أنام، مثل أغنية عالقة في عنق زجاجة منسية في كهف سحيق. أوْ، ربما، مثل بحرٍ صغير رسمه طفل على ورقة، فطارتْ من يده المرتعشة، ولن ترجع إليه، كما يحلم. لَكَمْ أنا عابثٌ بنفسي، في هذه الحياة، لكن ليس من أجل الموت. مع العبث أسير، وإليه أسعى، غير أني لا أحب هذا العبث الذي يقودني إلى خارج الأشياء والتفاصيل..
هذه الحياة الغامضة، المستعصية حول رأسي، لا أحبها أبدًا، لقد تعبتُ منها، وتعبتْ مني، هي التي تخذلني كلما أحببتُ امرأة، أو ركضتُ وراء فراشة، أو كتبتُ قصيدة، أو ظننتُ أنني قادر على النجاح في شيء ما، أي شيء غير الموت. لكني أيضًا لا أحب الموت، لا أطيقه، ولن أحتمله، أنا ضده في كل الأحوال، ومن كل الطرقات أحاربه، فارًّا منه إلى الكلمات. أنا أكتب لأخنقَ الموت، وأقلِّصَ مساحته، في الواقع أو الخيال، وأُغلِقَ في وجهه بابَ الأمل. ثُمَّ أنا، لا مشكلة عندي في أن أكتب للحياة ضد حروبها، وللموسيقى ضد الصمت البشع، وللغُبار النقي ضد هبوب الرياح القذرة، أنا أكتب لكل ما هو جميل أمامي، حتى لكأني قد وُلدتُ لأصنع الجمال فقط، وأمضي بكل جمال، فحسب. أنا غبار كثيف، كثير الحركة والانتشار في الفضاءات المفتوحة له، والغبار يُزعِج كل الوجوه، ما عدا وجهي، ويُقلِق حتى الهواء، ما عدا هوائي الحزين..
منذ قليل، كنتُ أحدّثك عن الصدق، وأحبك بصدق، وأكتبك بصدق. كما تعلم، أنا مفرِط كثيرًا في صدقي، ومن هنا تأتي خيباتي دومًا. وسأبقى صادقّا، على الأقل مع هذه البلاد الغالية، الضيّقة عليَّ. ومعك أنت أيضًا، يا صديقي الصدوق. كنتُ حلمًا، مجرَّدَ حلمٍ، ثم عندما أردتُ تحويلي إلى حقيقة، أسرعَ حلمي ذاته، منقلِبًا ضدي، غالقًا بابه في وجهي. ومنذُ ذلك الفشل الفادح، وأنا أنتحِب من دون بكاء، بل بسخرية لا تنفك عن الاشتعال والتصخُّم. إني مقتنع بما لدي من أوهام جميلة. فكما تعلم، أنا رجل خفيف النبض، يعيش في الغيوم، بين ألوان قوس قزح، في المرايا غير المصقولة، في الصفحات غير المقروءة، رجل يعيش في ماضيه الجميل، الذي يقود عربة المستقبل إلى هاوية أجمل من هذه الهاوية، ويحترِب باستمرار مع شهوات الحاضر..
الحب، هذا هو كل ما أملك. أجمل وأخطر الأوهام، الحب. هذا هو اللاعب الأكبر في حياتي، وهو الذي راحَ يعذّبني منذُ انبثاق الطفولة، طفولتي.. وأتعس وأكذب وأكبر الأوهام، هو الوطن. ليس لي وطن ولا منفى ولا حتى شجرة صغيرة حول نبضي. أنا حُرٌّ تمامًا. ولكن لدي صديق طيّب مثلك، بل هو أنت.
أنا منطوٍ على نفسي، في عزلتي أسبح وألهو كما أشاء، وأكره السفر، أرتعب من مشقة الطريق. عمومًا، أنا أزور كل بلدان العالم، باستمرار، لكن عبر أحلام اليقظة، فقط، أنا أحلم فحسب، وناجح بامتياز في صناعة أحلامي، الصغيرة منها خصوصًا. في الواقع، أنا فاشل في كل شيء، أو في أغلب الأمور.. حتى وجهي هذا لا أجد النشاط والوقت لغسله بالماء، أكسل مخلوق على هذه الأرض هو أنا، وهذه نعمة كريمة من الله، بحسب دراسات الخبراء الذين لجأتُ لسؤالهم عن المعنى العميق الكامن وراء هذه اللعنة المقرونة بي. كسول نحو الحياة، نشيط تجاه الحب والأصدقاء الجميلين. ليست لدي وظيفة لا في الحكومة ولا في القطاع الخاص. ليس لدي سوى هذا الألمِ الذي أكتب به، ويكتبني إليك.
في أحلامي القادمة، سأنقلب على هذه الأشياءِ، وهذه المعاني، من دون الوقوع فيها، سأبتلع هذه الفوضى بكاملها، وأنام عاريًا فوق عتبة الصمت العالي.. مع الوقت قد أصير صوتًا مسموعًا، أو نبيذًا، أو شاهدَ قبرٍ، وسأخلع وجهي، وأشطب اسمي، سأدفن ذاكرتي برماد الحب، وأدهنها بزيت الهدوء، وأرمي بالكتابة، دفعةً واحدة، من ثُقبٍٍ صغير في الباب. ورغم ذلك كله، أنا لستُ متعَبًا، ولا شيء يستحق اكتراثي أو تعبي أو جنوني أو شغفي، أجل، إني بخير أكثر مما أستحق. سأحبك كي تحلو الحياة. وأخيرًا، دعني الآن إلى نفسي، وأتذكَّرْ ليلى والسنين الخواليا..