- كتب: ضياف البراق
ثمة كلمة تمنحني الحياة. ثمة كلمات تنبع منها حياتي، وأصنع بها شخصيتي، وعالمي الخاص. والموت، هو تلك اللحظة أو المسافة التي أنفصل فيها عن الكلمة أو الكلمات. فالكلمة ليست مجرد أداة أو صوت أو صورة أو إشارة، فحسب، بل إنها حياة ضرورية جدًّا، إنها أكثر أهمية من شربة ماء يتمناها عاطِش تائه في صحراء من أيام. وسوء استخدام الكلمة يؤدي إمّا إلى مشكلة أو هاوية أو غياب أو حريق..
كل كلمة هي بحد ذاتها فن. وفي كل كلمة، جمالٌ ما، ولا يكتشفه إلّا مَن لديه إحساس عميق بالحب، وشغف فطري بالبحث والكشف والمعرفة. فأحيانًا يتولَّد الجمال من أقبح الكلمات. وأحيانًا تتولّد أجمل الكلمات من أقبح الأشياء أو المشاعر أو الظروف. بقليل من الحب والحنان، أو بكثير من العشق، نستطيع أن نحول كلمة قبيحة إلى جميلة. في الكلمات، تعيش وجوه، وألوان، وعصافير، وغابات، وعوالِم شتّى، وأسرار غريبة. الكلمة بيت الحياة، وضوء الحضارة. خطواتي كلمات، وأنفاسي كلمات، وأحلامي كلمات، وحياتي لغة. لا طُرقَات ولا علاقات ولا لقاءات بل ولا أفكار من دون الكلمات.
الكلمة هي خبزُ وماء ونشيد، برْقٌ ومطر، وجودٌ وحياة وهُويّة. لا وجود لنا خارج اللغة، بلا كلمات نحن فارغون، ضائعون، وعاجزون، الحياة هي الكلمة، والكلمة طريقنا إلى الحياة، فالأشياء لا قيمة لها ولا تكون لها هوية بمعزل عن الكلمات، فهذه الشجرة كلمة، والبيت كلمة، والهواء كلمة، والحب كلمة، كل شيء بحاجة للتعبير، للتواصل، للرؤية، وكل هذا مستحيل من دون اللغة، فالذي لا يتكلم لا وجود له، فالصمت كالموت، إنه غياب، عدم ظهور، وحدها الكلمات تجعلنا نحس بأننا موجودون، وأن لوجودنا أهمية وقيمة ومعنى..
فهذا القلب الذي ينبض في صدري، ويرقُص باستمرار، هو في الحقيقة كلمة تؤدي وظيفة محددة، وهذه الدموع التي تسيح من وجهي، كلما انتابني حزن ثقيل، أو فرح مباغِت، هي كلمات لها وظيفة خاصة، فكل نبضة هي كلمة، وكل كلمة هي روح، فنحن لا نشعر بقيمة الكلمة إلا عندما نحس بالخطر، أو عندما نقع في الحب، ونحن نعيش بالكلمات، وفيها، حتى في أحلامنا، فبالكلمة أستطيع أن أتنفّس، وأمشي، وأرى، وأعبّر عن حقيقتي، وأرسم الصورة التي أريد، وخيالي هذا لا يتفجَّر إذا غابت عنه الكلمات، وأنا عن طريق هذه الكلمات، أخلق حياتي بشكل دائم، وأمّا الموت فهو عجزي عن التعبير، أو عن الكتابة.
في كل كلمة حياةٌ أو أكثر من حياة، وفي كل حياة كلماتٌ أو لغاتٌ لا تُحصَى. أعشق الكلمة، وأعيش في الكلمات، وكل لغة هي حبيبتي، وهي قصيدتي، وكل حياة تمنحني لغاتٍ كثيرة للتواصل والتفاهم والتعايش مع ما حولي من أشياء وكائنات ومنعطفات وأسئلة..