قصة قصيرة
- محمد الهائل
في وقت ما قبل الظهيرة ..بينما كنتُ أجلس على المقعد الأمامي، لحافلة نقل ..تقف على الشارع العام في مدينة التربة ،تنقل ركاب إلى مدينة تعز.. وعند انتظار الحافلة تمتلئ بالركاب ..كان في المقعد الخلفي تمامًا ،يجلس ملاصقًا للزجاج الأيسر لمقعد الحافلة، رجل كبير في السن اسمه “الحاج سعيد”…والى جواره كان يجلس شاب، من ملامحه ،يبدو عليه ،كأنه في العشرين من عمره ..إسمه “طلال”.
“الحاج سعيد “عائدًا من -الغُربة -في إحدى دول الجوار، بعد 20سنة …يتأمل من نافذة الحافلة ،توسع المكان ،المباني السكنية تغزو الأراضي الزراعية ، إزدتحام مروع لمباني سكنية لمدينة مترامية الأطراف ،أفقدت تلك المدينة جمالها …وجوه جديدة تمُر من أمامه ..طفرة من الناس تضج المكان ،الخط الاسفلتي شبه منتهي وعليه الكثير من الحُفر..الشوارع مزدحمة بالمارة ،بالسيارات، بالدراجات النارية ،بالنفايات…عشوائية مرعبة …يجر نهدة من أعماق أعماق روحه المثخنة بطعنات الدهر : اه يا زمااااني!
وفيما انا شاردُ الذهن سارح الخيال ،لوضع مقارنة بين زمان” الحاج سعيد” والشاب العشريني “طلال” ..يقف إلى جوار الحافلة رجل فقير يقصد مدينة تعز ..كان ذلك الرجل الفقير، يتودد سائق الحافلة ..
-الرجل الفقير :معي (2000)ريال لا غير ..باركب الى تعز ؟
-السائق :معك (4000)الف ريال…والا الله يفتح عليك ..مافي خراج ،الدبة البترول بثلاثين الف .
يعود ذلك الرجل الفقير ، بنفسية منكسرة ومهانة للجلوس على الرصيف…ينزع “الحاج سعيد” نُهدة ثانية يجتثها من كل شعيرة في جسده ،ومن صمام قلبه :الله يرحمك ياقشنون !
لك أن تتخيل أنّ ذلك حدث أمام عينيك، لكان بإمكانك أن ترى قشنون يزمجر ويعرعر للسائق و للبلاد برمتها..أعود في نسج خيالي سريعاً ،أتذكر المعلم “قشنون” وهو في فرزة التربة /تعز ،على سيارة قديمة ،يجلس في المقعد المخصص لسائق “بيجو” فاتحًا الباب وقدميه على الأرض يرقب الركاب- المسافرين الى تعز …وأحياناً يتجول في المكان مابين “الكشك “و”الفرزة” .. كان رجل مسن ،ومن ملامحه بروحه شبابي .كان أسمر في بشرته ،محشوراً داخل بنطاله الجنز ،يضع على رأسه قبعة زنجبارية ،عاصبًا عليها في بعض الأحيان ربطة ملونة..ألحظه يدخن بشراهة…كان نحيفاً و بسيطاً وإنساني متواضع جدا .كان من تجاعيد وجهه،في ذلك الزمن الجميل يشبه هذه الأرض بنقاء تربتها الطاهرة والجميلة.
من ملامح وجهك ،يعرف من اي منطقة تنحدر …ياله من رجل عجيب ..يملك فراسة عالية ،يعرف جميع المعادن!
-سائق الحافلة ينادي المارة في الشارع: باقي نفر ..باقي نفر هيا نفر تعز ..
أبتسمتُ بصمت ،أتذكر- نكتة -عن قشنون رواها لي احد الاصدقاء:”كان يومًا المناضل” قشنون “في اجتماع حزبي، مع رفاقه،وكانوا في نقاش عن كيفة استقطاب عناصر جديدة لتنظيمهم السياسي ،وكيف يكون العضو الحزبي عنصراً فاعلاً،وكم لديهم من العناصر الحزبية في كل منطقة من مناطق ريف تعز -الحجرية ..المعلم قشنون في اليوم التالي للاجتماع ،من على “البيجو” في فرزة التربة /تعز ، متهكماً ..باقي عنصر ..باقي عنصر.
-طلال : ايش عمل “قشنون “،تترحم عليه يا حاج سعيد.. كنت زبون بلدي والا خارجي تشتري من عنده ؟!
في البداية “الحاج سعيد” يعجز في الرد على وقاحة طلال ، لأشاهده ،حزين ،على هذا الزمن ،وانحطاط أخلاق الكثير من شبابه ..
أستدرتُ من على المقعد الأمامي، ناحية ركاب الحافلة، مخاطباً طلال :اين الاخلاق منك؟!……
-ياصاحبي أنت لا تعرف قشنون…كان المعلم قشنون رحمة الله عليه ،رجل الخير إلى حد أنه كان صعلوك زمانه ..كان يملئ “التربة “وجوداً وتواجدا..كان ملاذا وأب لكل الطفارى و الجوعى …من لم يجدوا ما يسد رمق جوعيهم و تشردهم ..حتى كثير من القطط والكلاب الذي كان يطعمها و يسقيها،حزنت- انتحبت كثيرًا على فراقه ،وتيتمت متضوّرة جوعًا بعد موته ..كان يعول كثير من الأسر الفقيرة،والايتام في مدينة التربة ومحيطها ….كان اي طالب او شخص فقير ،لا يوجد لديه حق المواصلات، يركب من الفرزة في أيام المعلم قشنون -بالمجان- ..هل تعرف ذلك ؟!
-لا يُجيب طلال على سؤالي ..لِيظل منذهلاً من كلامي !
“الحاج سعيد “:كان المعلم قشنون ،مندوب الفرزة ومسؤول نقابة السائقين ،واي سائق تحل عليه نكبة ،او فعل حادث …كان يقوم بدوره المسؤول والإنساني في الوقف مع أي مظلوم أو متضرر ..كان إنسان تعرف ماذا يعني إنسان ؟
“طلال” بعد ذلك : علينا جميعاً قراءة الفاتحة الى روح المعلم قشنون….وجميعاً قرأنا الفاتحة لروحه الطاهرة.
-سائق الحافلة :ينادي ذلك الرجل الذي لم تتوفر لديه كامل أجرة المواصلات و يجلس على الرصيف: هيا تعال..جيب الحاصل، ولو ما في معك إركبّ ولا تجيب ريال !!
- دمعت أعيننا من الفرح..مع إبتسامة ذلك الرجل الذي كان يجلس على الرصيف ،لم تكتمل لديه أجرة المواصلات..ليكون الراكب الأخير ،لملء الحافلة بالركاب، بعد انتظار طويل على مقاعد الحافلة !