- كتب: طه العزعزي
إلى الحد الكبير، الكتابة تعني لي العذاب،أو هكذا أحسُ لوحدي ،هي عذاب،لكن هذا العذاب لا يخلو من الذوق، عذاب لا يخلو من الفن اللذيذ،هذا العذاب يُمكننا أن نقترف من الدمعة قصيدة ومن القلق كتاب، هذا العذاب إذاً محترم، يمكنُ له أن ينبهنا بحذر وبماهية تجاه بعض الأشياء القذرة، يمكنُ له أيضًا تحذيرنا من الحياة، وكذلك يمكن لهُ أن يوقظ الكلمات الحساسة في داخلنا الإنساني، وأن يبعث فينا الحب والنضال وكل الأفكار السامية التي نحتاج إليها،إن كتابة لا يتصل صاحبها بهذا العذاب هي أقل من أن تُتحرم،قناعتي،لأن كتابة كهذه أقل من أن تُعبر عن حياة الكادحين الذين يعيشون بيننا،هذه الكتابة تكفي صاحبها، تقتصر عليه فقط، الكتابة المُعذبة حقيقية جدًا،فاضحةً أكثر، كتابة قد تنطق بالآه التي لا تعني الواحد وإنما الجمع المثالي،والتي لاتعني الفرد بين الشعب كله.
عندما تخلق الكتابة شوقًا ما في الكاتب،فإنها هنا تُصيبه، قد تُصيبهُ بالعذاب،وقد تصيبه بالندم،وقد تصيبه بالشوق ذاته،من يكتب هو أكثر إحساسًا بهذا المعنى، بما أريد إيصاله بالفعل،الكتابة ” إرهاق وتمزوق”،أحيانًا يخطرُ في ذات المؤلف أنهُ مُستقبلاً سيصير شيئًا ما،أي مؤلف يحلم بذلك، وقد يخطر في ذهنه أيضًا حُب أن ينافس مجايليه من الكتاب،هذا نوعًا من الحب، تعاطي جيد مع الديمومة، شرط أن تخلو روح المؤلف من الحسد،أو الخبث والنرجسية، أو الثقة المفرطة،كل هذا يدفعُ إلى الشوق، وظيفة الشوق هنا،أن يُصير الكتابة في داخل الكاتب الناضج والمؤلف صاحب المشروع والفكرة إلى واقع تجربةً هازمة للوقت ،وعملاً باحثًا دائمًا وقلق فكري مُستمر في كل لحظةٍ، بل أيضًا حياة وحب،أحيانًا يخطر في ذهن الشاعر أو الفيلسوف أو الكاتب فكرةً ما تجعله يشعر بالذُعر الإيجابي، بالخوف من المستقبل أو الناس من حوله،قد تخطر في ذهنه خُطة صناعة مؤلف، ثم إذْ هو يعد ذلك تخطر في ذهنه كتابة أخرى،قد يفعل ذلك ويخطر في ذهنه موته، ولقمة العيش، ومصاريفه اليومية التي تُساعده في البقاء، العذاب هنا صراع غير منظم،صراع يختلط حتى يُفسد دم الكاتب وروحه، شغف الكاتب على مواصلة الكتابة يعني تلذذه بالعذاب هذا، طلبه المُستمر له،يعني الكتابة أو دونها أي شيء، أي شيء قد تعني موت الكتاب، كم هو وحشي بإفراط هذا العذاب المُر ! .
نظرتُ إلى أحد البسطاء وهو يتخبط في الشارع اليوم ، كان يبحث عن شيء كما يبدو،في عقلي، قلتُ هذا الرجل أضاع أوراقًا نقدية،إلا أن الأمر كان أبعد من ذلك ،عندما اقتربت منه لأسئله عن ماذا فقد،تبين لي أنه لم يفقد شيء،إنما هو يبحث مع شخصًا آخر فقد أوراقًٍا نقدية،أنا مثله أيضًا قد أكتب للآخرين ولا أكتب لنفسي،فالكاتب حين يقضي من وقته الكثير لكتابة مقال أو أي قصيدة،يفعل ذلك حبًا في العطاء،هو يكتب لمُعدمي الكتابة،بالأصح الذين لايجدون التعبيرة المناسبة،أو الجملة البلاغية.وهذا هو الأساس الذي يجعل القراء يبحثون عن مؤلفات القلة من الكتاب،إحساسهم عظيم تجاه البسطاء والناس المشردين والكادحين.
الكاتب الذي تقوم بينه وبين الكلمة علاقة وطيدة، علاقة تماهي وحب ، شغف وإرتباط، بشكلٍ أو بآخر، لن يكون سعيدًا في حياته.الكاتب في سباق دائم مع الزمن، هو أيضًا في مطاردة لذيذة مع الكلمات، تجده يطارد كلمة شاردة هنا ويبحثُ عن أخرى هناك،يبحث عنها،ليأتي بها كي يكتبها للآخرين، كي يعبر عن من حرموا هذه الكلمة، يأتي بها أيضًا كي يقنع جيبه الفارغ بأنها ورقة نقدية و إكتنازًا آخر للدفء، قد تأتي الكلمة قبل الفكرة أحيانًا، وقد تسحب الفكرة الكلمة في أحايين أُخرى، فعند الإرتباط بالكتابة اليومية بالنسبة للكاتب المتفرغ وصاحب التجربة يحدثُ أن تستدرج الكلمة الفكرة وتبنيها، أقصدُ الكلمة المُناسبة التي يظل الكاتب في بحث دائم عنها، هنا يلتقط الكاتب الكلمة كما يفعل ديك بحبة قمح، ثم إن هذه الكلمة التي قد تستعمر الفكرة وتحتل مبناها بوجدانية، فإنها تتاعطى الكاتب ووقته وتشغله في البنية السردية ذاتها، عندما يُحدث الكاتب نصه المفتوح يقلق أكثر، لايرتاح إلى موضع هذه الكلمة هنا، ولا إلى تواجد الكلمة الأخرى هناك، ثم يقترح في نفسه أن الكلمة التي في النص عندما لايرتاح الكاتب للوضعية التي تقف عليها يجب أن تُغير أو تستبدل بدخل بنية سرده الفني، هو يسرع في تغيير الكلمة بدلاً عن الأخرى ويقترح أن تكون الأخرى مكانًا مناسبًا لتلك، هذه الكلمة حلوه وتلك مالحه كالدمعة وهذا لا يعني صدق مشاعر الكاتب بأي شكل، أو تلك كلمة شاعرية وأخرى كلمة ذات دلالة تنظيرية وهذا يُخل ببنية الموضوع .
من ينام مع مجموعة من المؤلفين والكتاب سيشعر بذلك دون أدنى شك، ومن يخرج ألى الشارع مع أي كاتب سينتبه إلى مقدار هذا القلق، الكاتب تأكلهُ روحه مثلما يأكل الصدأ الحديد، الإشتغال على الكتابة يعني الإرهاق والسهر، يعني كذلك القلق الدائم ومحاكاة النفس والهيجان الداخلي .