- طه العزعزي
قد لا يتصور البعض منا مقدار الجناية الهائلة التي يحدثها الحزن في الكتابة، طبعًا ، أقصدالكتابة هنا بوصفها مشروعًا، بوصفها كذلك وظيفة جمالية، بوصفها قياسًا لا محدود من النضال ، وبوصفها كذلك فرض معاملة نظيفة وتقدير وإحترام مع عقل القارئ ، بالفعل هي نضوج وممارسة ، وليست حدثًا عابرًا ، أو رطانة مقيته ، وأداة طيعة لقتل الوقت أو مداعبة الفراغ بالتشظي النازف لدى الذات الكاتبة ،ليست تفريغًا وبسطًا للأحاسيس الخاصة، ليست تعني أبدًا أنها بضاعةٍ رائجة ، قد تُعجب هذه البضاعة زبائن كُثر ، وأيضًا قد لا تعجب ، وقد تشتري متفاعلين قليلو وعي ، أو بالأصح ، متفاعلين صادقًين جدًا في تعاملهم مع النص واستنطاقه حال القراءة، قد تشتري كائنًا يعيش الوجع ذاته، وقد تشتري كذلك كائنًا ضعيفًا وعدميًا آخرًا لم يستوعب صدمات الحياة بعد، كائنًا ينظرُ إلى ذاته كطريدة من كل ممكنات العيش، وليس هو يتقبلها بأبعادها الخاطئة ، كل كذلك ، وفوق هذا التصور العنيف ، بل إنه الإحساس الأخطر لما قد يخلق الحزن في المعنى الكتابي تدريجيًا من ألم بداخل ذوات الآخرين ، يمكن للكتابة المحشوة بدموع الكتاب وبمقولاتهم اليائسة ، وبعدميتهم ، بنصوصهم القلقة كذلك ، بأفكارهم الرافضة ، وبتعبيراتهم الفلسفية الصادمة، يمكن أن لها تدمير حياة شخص وتحويله ببساطة إلى مُنتحر .
أنا لست ضد الحزن ، فأنا متشبع به ، وقد عانيت من إعتمالاته المتكررة في نفسي ، متشبع به حد القرف الإنفعالي المُدمر، أنا في الأساس ضد تسطيح الوعي ، وضد التفريغ الكتابي الذي لا يضع بالاً لحساب الزمن ، ضد هذا الأسلوب السريع الذي يُستسهل أن تدهسة إطارات الزمن الأسرع منه، في الحقيقة أنا ضد كل سائب من اللب .
الحاجة إلى الحزن حاجة لا تقل أهمية عن المعرفة والفن والحب ، لايقل أهمية عن الحرية ، الحزن بحد ذاته إنبعاث صادق للحرية ، للرفض ، شعور يكاد يدرك تفاصيل في الحياة ليس بمستسهل الأفكار الأخرى الوصول إليها ، بالفعل ، هو إتصال حقيقي للإدراك بالجزئيات والحقوق والوجود ، غير أنه لا يعني كل شيء، ولا يعني الفكرة الناضجة أيضًا، أو كم المعلومات، هو حاجة للتعبير بصدق ، مثلما الحب حاجة للكتابة بإنسانية ، وهو حاجة شعور لإيقاع القارئ في لجة الإنفعالات التي تتولد منه حين قراءة النص ، مثلما الأفكار الصميمية ذاتها التي تعتبر حاجةً لصدم وعي المجتمع بأكمله ، أي أنه لا يعني كل شيء ، كل شيء بالنسبة للكاتب ، هذه ما أقصده ، فالبعض من الكتاب يتفلتون من جملة قضايا مهمة ، تفلتهم هذا خطير ، وهو هروبًا نحو فضاءات أخرى ، منها التنفيس عن الذات ، والأسوأ الإنتصار السافر لها ، يحدث ذلك أمام الخلق ، وفي الورق ، يحدث غالبًا .
التعبير الجيد عما يقطن بداخل النفس البشرية ، يجب أن يكون شيئًا خاصًا من جملة إطار، لابد أن يكون كذلك ، أن لا يحوز على الفكرة بوصفه شعورًا ، يجب أن يكون جزء تحليه لموضوع أكبر يتسم بالأفكار ، الكتابة التي تكتب الحزن لأجل الحزن فقط ، كتابة خاليه من الفكرة ، غير أنها ممتلئة بفيض الأحاسيس، وهي بذلك تصبح كتابة خاصة بالذات، تُعلل خطأ الحزن نفسه بداخل النفس البشرية وتشيعهُ بالكلمة ، فينفي عنها جوهر خلق الوعي الجماعي، وجوهر التجريب وخوض الحياة بمعتركاتها من أجل المستقبل .
لستُ أعرف من الذي جنى على الكتابة حين إعتبر الحزن معيارًا لها، لستُ أعرف من اعتبرها تدعيمًا لقوة المعنى بداخلها، معيارًا لظهورها بالمظهر الذي يتناص مع حياة الآخرين المتشبعة بمعركة الأحاسيس الولبية فقط، بالنسبة لي الكتابة تعني فعل شيئًا ما عن طريق الكلمات ، إراده حقيقية ، وبالمطلق هي لن تكون النزيف السردي والكلمات المتراصة إلى بعضها البعض في الأسطر الكتابية، وفعل الشيء هذا، فعل يُشرك فيه عقل القارئ مع نتاج الكاتب نفسه، معى ما يريده هو له ، فمرد النص الحزين الذي قد أتقبله أنا بإعتباري أمتزج بشعور الكآبة إمتزاجًا يوميًا، أجدُ أن آخرًا غيري لن يتقبل ذلك، وإن هو فعلها وقرأ الكثير قد أسبب له نوعًا من الأذى ، إن النص الحزين يسوق القارئ إلى شعور حزين مُماثل ، يدفع به إلى الإحباط ، قد يسبب كارثة لأي فتاة جميلة أيضًا، إنَّ شرارة الحزن في نص الكاتب حريق هائل يمكن أن يلتهم الآخرين ، يمكن تدمير نفسيات طيبة وطفولية أكثر .
كارثة أن نستعجل إستفراغ الكلمات الحزينة المحبوسة بداخل أنفسنا لاشك كارثة فادحه ، وجُرم بحق الآخرين أحيانًا ، بغتتة الشعور لا تستنطق الزمن ولا تترك إنطباعًا فكري بقدر ما تترك إحساسًا في النفسيات ، فيما أنه يضع النص الكتابي كلحظة عابرة، أي يجعل منه ثابتًا ونافعًا لعنصري مكانه وزمانه هو، ثم إنهُ لا يصير الكلمات ببعدها الفكري بقدر ما يستعرض الكاتب فيها ترف الكلمة التعبيرية التي لا تتخطى حدود المشاعر .
أخيرًا ، يجب علينا الشعور بالكتابة قبل أن نكتب ، أيضًا وعلينا الشعور بالقارئ ذاته قبل أن نقترف الذات عليه ، يجب علينا الشعور في الكتابة بوصفها مشروعًا ورؤية ، ميدان عمل ، تجريب ، ومغامرة ، وصناعة وعي مجتمعي ، وموقف أيضًا، علينا الشعور بما تتطلبه الكتابة منا ، من تشبث بالحب، ومن احترام الآخر، ونقض هادم ومتواصل للأفكار العنصرية، من قراءة يومية، ومن استنطاقٍ للواقع .