- كتب: محمد عبدالوهاب الشيباني
بعينين مختلفين واحساس عفوي غير متصنع يرى الأشياء ويكتب عنها كلاما بسيطا، يظن قارئه أن باستطاعة أي من كان كتابته، لكنه عند صعلوك متمرد ومتمرس مثل طه يصير شعرا مختلفا ، تضطره التأطيرات الفنية أن يبوبه في قصائد لها عناوينها التي تصير مفاتيح وعتبات قراءة ،هي لا تعنيه في الأصل، وغير منشغل بها فحين يكتب مثلا:
صاحب العربية في الشارع
يواجه الريح والمطر
بمظلة واحدة.
سنظنه كلاماً عادياً في فعل القراءة العابر ، غير أن شعريته تكمن في التقاط اللحظة نفسها ، واسناد وظيفة جديدة للمظلة التي هي مواجهة الريح ، بمعية صاحب العربية الفقير.
قصائد بسيطة حد الامساك بها طرية، عميقة حتى الدهشة التي تأخذنا الى أبصار أنفسنا في مرآتها.. قصائد تجهد متابعها في إعادة موضعتها في سياقات تعريف الشعر التي دأب عليها النقد واصحابه:
النفر السلتة
الشاي في المقهى
القطل البلدي
أحلام اليقظة
إشادات البعض
شتائم مرتدة
الحانة
لا يوجد حانات
نشرب في الطرقات
نتمايل لنغيظ الثقلاء.
قصائد تشتَّمُ فيها المكان ، وتُبصر فيها الوجوه وتصافح فيها انهداماتك بكل طمأنينة.. قصائد توثق ليومك وأنت محتشد في الناس ومقطّر في تعبهم باختصار:
من يذهب إلى جولة تعز
ويقف مع العمال المنتظرين
منذ ستينات القرن الماضي.؟
قصائد تتقطَّر فيها أحلام الفقراء نقية، في حياة صارت تؤرخ أيامها ضغائن القتلة وبارودهم :
من يدلني على ظل
أتأمل وأصمت
لا أريد الحضور
ولا الإشادات
أريد أن أكمل حياتي كأب
تهتم الزوجة بي في المرض
ويلتف الأبناء حولي
عندما أموت.
بحكم مزاملتي لطه لأكثر عقدين قرات كل ما أصدره في دواوين ، وفي كل ديوان كانت هذه التجربة تكبر وتستطيل وتحفر في شخصية صاحبها الذي صار مكتفيا في ذاته، فمن بين عشرات القصائد المتشابهة لعشرات الشعراء يمكن تعرف طه من أول سطرين، فهو لا يتفذلك ولا يتصنع، وحين يحاول تحت تأثيرات عابرة تخرج منه قصائد لا تشبهه على الاطلاق.
في ديوانه (البيت الهادئ يدعوا للقلق) الذي صدر في مثل هذا الظرف واخترت منها ما ورد في السياق ، هو وجه آخر لمقاومة الشاعر لفعل الموت، الذي يتربص بنا في كل منعطف.
تحية لهذا الصعلوك الجميل الذي نتمنى أن يجد من السفلة من يليق بشتائمه المبجلة :
الشتائم متوفرة
لكن السفلة ليسوا
في مستواها
للمنتصر حكايات كثيرة
وللمهزوم ساق خشبية …
كما يتشهى لأنه في الأصل مع المهزومين، الذين سيعيد ترتيب حكاياتهم بالشعر:
أنا دائماً مع المهزومين
من يريد أن أصطف معه
عليه أن ينهزم أولاً.
- الصورة الرسمية جدا لطه هي إحدى فلتات الوقت ، ولا أظنه سيعترف أنها تعود إليه ، وألتقطتها بعدستي برغبة منه في صباح بارد بمركز الدراسات قبل عقد من الزمن المفقود، وأن الذي في الزاوية اليسرى هو الجميل علي المقري.