- كتب: محمد عبدالوهاب الشيباني
حاولت في أكثر من مناسبة الاقتراب من المنجز الرائد للفنان هاشم علي من تلك الزاوية الحميمة التي ربطتني به كصديق واستاذ كبير، وابتدأت كتابتي الباكرة عنه بنص شعري أسميته (زهرة الحنُّون ) ، لأن لوحاته عن المكان والنساء، كانت تشدني إلى فرشاته شديدة الالتصاق بالوجوه القريبة منا، أما ما دفعني لاختيار هذا العنوان للنص أن “زهرة الحنُّون ” أرتبطت عندي بتلك الرائحة العطرة لزهور بيضاء صغيرة وناعمة تخرجها أشجار الحنَّاء على هيئة عناقيد متفرقة في الأغصان الكثيفة ، وكنت أشتم رائحتها في ملابس والدتي، بعيد عودتها من الوادي أو الجبل وفي كمها بعض أغصان الحناء وملتصقة بها تلك الزهرات البيضاء، وإن الفلاحات التي استنطقتها مثل تلك اللوحات، في تجربته الثمانينية على وجه الخصوص ، فلم أكن أبصر تفاصيل وجوههن فقط، وانما أشتم فيها مثل تلك الرائحة.
المهم في النص – الذي لم ينشر في أي من مجموعاتي الأربع المطبوعة، وإن نشر وقتها في إحدى الصحف المحلية _ كان استحضار هاشم فيه كجزء فاعل من استحضار المدينة وريفها بتفاصيلهما اليومية ، والتي تغلغلت في ذاكرته اللونية منذ جاءها شاباً في العشرين من عدن ، بعد أن تقطعت به سُبل العيش في حضرموت ، التي وصلها قبل منتصف الخمسينات بقليل من إندونيسيا برفقة أسرته ، وبعد وفاة الأب ترك الدراسة وهو في العاشرة ، وحاول أن يقتات من مهنة الحفر على الخشب التي تعلمها من أستاذ حضرمي اسمه الجفري.. لكنها ضاقت عليه هي الأخرى، فانتقل مع أخيه الأكبر إلى أبين، ثم إلى عدن حيث استقر عبدالله الدويلة هناك، وعرف لاحقا كصحافي محترم ، واختار هاشم مدينة تعز مستقرا له في العام 65، ومنذ انتقل للعيش فيها ، لم يبرحها قط .. رسم كل تفاصيلها من بشر وحجر… قال لي ذات مرة تعلمت من تعز كمكان أكثر مما كانت ستعلمني اكاديمية فنون، في أي بلد في الغرب أو الشرق، وفيها دشَّن معرضه الشخصي الأول في العام 1967.
قبل أكثر من أربعين عاماً وتحديداً في العام 1978 كتب الدكتور أبوبكر السقاف عن “الإنسان والأرض في فن هاشم علي” في كتابه – كتابات 1
” يقول الأخ الدكتور عبد الحميد إبراهيم في كتابه “القصة اليمنية المعاصرة” 1977 إن ظهور محمد عبد الولي في عالم القصة اليمنية المعاصرة أشبه بنبتة تخرج من بين الصخور، ويصدق هذا على فن هاشم علي ، بل أني أبحث عن شيء أصلب من الصخر لأداء المعنى الذي أريد أن اعبِّر عنه.
لقد بزغ هاشم كالنور في قلب الظلام، وإذا كان محمد عبد الولي قد وجد أمامه طريقاً طرقه كثيرون، على تفاوت في حظهم من النجاح، فإن هاشم هو البداية ، وكل بداية شاقة، فقد بدأ يلعب بالألوان ويحاور صبر ، وأطياف فتياته، في وقت لم يكن للرسم فيه أي وجود في الجزء الشمالي من الوطن، فقد حط رحاله في تعز عندما كان الرسم سمة وثنية ، وكان الشمال خالياً من لوح واحدٍ أو تمثال حديث”(*) الدكتور أبوبكر السقاف- كتابات مؤسسة 14 اكتوبر عدن 1981 ص108
كنت بين زيارة وأخرى لي لتعز أعرج عليه ، فنرتب موعداً صباحيا للتجول، أو مقيلا بمسكنه، أو عند أحد أصدقائه وهم كُثر.. نتجول في حواريها القديمة وأسواقها ونأكل في مطاعمها الشعبية، قبل أن يعود بقاته باكراً الى حجرته المتواضعة، جوار مرسمه الصغير، واللذين فُصِلا عن مسكنه العائلي الضيق أصلاً، أما موعد دخوله للمرسم كان يتم عادة بعد العصر، وهي عادة لا يكسرها سوى مودة جليسه أو زائره، أو وجوده خارج المنزل، أما من اعتاد عليهم من زواره الدائمين فكان يتركهم لإكمال مقيلهم في الحجرة المتواضعة، وهناك في المرسم يبدأ منهمكا لساعات طويلة بتصريف افكاره الفنية على الأحبار والورق والاقمشة، ذاته المرسم الذي احتشدت فيه اجسادنا ذات ربيع من العام 2000 برفقة الدكتور حاتم الصكر، لاكتشاف عوالمه..
في بيته المستأجر والبسيط في منتصف عقبة شارع 26 سبتمبر باتجاه النقطة الرابعة وعرضي الجحملية صعوداً، أو هبوطا باتجاه المدينة تصالح بشكل عجيب مع ضيق المسكن، ومع ضجيج العربات والدراجات النارية، التي ترتفع أصوات ماكيناتها بسبب أحمال صعود العقبة، بل وأعتبرَ هذا الضجيج جزءً من تمرين الأذن اليومي على الاذى الجميل.
لم يكن فقط رساماً ملهماً ورائدا للتشكيل الحديث في اليمن كما يعده الدارسون والمهتمون، وتتلمذ على يديه عشرات الفنانين المبتدئين الذين صار بعضهم أسماء رائجة داخل اليمن وخارجها ، بل كان مفكراً حقيقياً وفيلسوفاً نابهاً يحيط بتاريخ الفنون والحضارات الانسانية بشكل لافت ، وساعده في ذلك اتقانه للإنجليزية التي كان يقرأ بها .
أنحاز للسرديات والشعر الحديث والموسيقى، فكان لا يتم حديث معرفي معه الا واستشهاداته الحية من أعمال روائية أو أعمال شعراء وموسيقيين حاضرة على لسانه ، لتعزيز أفكاره وما يريد ايصاله لمستمعه.
برغم استطالة تجربته الفنية التي أمتدت لقرابة نصف قرن ومنحته شهرة فائقة، لم يركن عليها في الأصل، ظل حتى آخر أيامه يجدد في موضوعاته وفي منظوره اللوني، الذي صار أكثر بهاء وفرحاً وشاعرية، حتى وهو يرسم قرى الجبل _ التي سترد أحداها مع هذه الاستعادة في ذكرى رحيله التي كانت في 7 نوفمبر 2009.
من الحكاية الشعبية استلهم، ومن السخرية اللاذعة قدم بصريَّاته التي تشبه توجعَّات البسطاء من الناس، ومن الطبيعة استنطق لامرئياتها المحتشدة في اللون.. رسم الأزقة والمساجد وبائعات الفواكه وورَّادي الماء والعتالين والفلاحين وضاربي الطارات من المتصوفة والدراويش، ورسم الصيادين ونساء الأرياف.. رسم القرى والحيوانات، رسم كل ذلك بالزيت والحبر الأسود، ففتحت لوحاته، بتعدد أسلوبياتها، للدارسين متنفسا قرائياً وتنظيريا ، سهَّل علي الكثيرين منهم موضعتها في سياقات التأثير المدرسي لتيارات الفن المعاصر ، والتي اتصل بها هاشم بواسطة القراءة وليس على مقعد الدرس.
من أحجار تعز الملونة أنجز “جدارية الشمس” ، في إحدي منتزهاتها بالقرب من كلية الآداب ، قبل أن يكرِّمه فنانوها ومثقفوها في 2012 ، برسم جدارية له في جولة البريد لمناسبة ذكرى رحيله، وبعدها بقليل انتفض الجميع تضامناً مع هذه الجدارية ، التي تعرضت للتشويه من ظلاميين يكرهون الفن ويجرمونه.
رسم ونحت كل شيء له صلة بجمال الإنسان والطبيعة ، حتى وهما في أشد بؤسهما، ولا تخلو عشرات من لوحات تلاميذه من رسامي وفناني اليوم من مسحاتها الروحية والجمالية، حتى وهم يحاولون العمل بنصيحته التي تحثهم على البحث عن شخصياتهم الخاصة ، بعيدا عن تأثيراته وتأثيرات غيره.
و لا يخلو مسكن لأحد من اصدقائه القريبين من بروتريها جميلا لشخصه، أهداه إياه هاشم علي ، تعبيرا عن مودة خاصة، وهنا أتذكر في إحدى جولاتنا الصباحية بالقرب من السوق المركزي في العام 2003 أصَّر على دخولنا استديو تصوير قريب ، وأمر صديقه المصور بالتقاط صورة جانبية لي، دون أن يخبرني لماذا ؟؟.. وفي اليوم التالي أعطاني نسخة من الصورة التي وضعتها في الحقيبة ونسيت أمرها.
وبعد شهرين تقريبا فاجأني الصديق القاص محمد عبدالوكيل جازم بمظروف مغلَّف حمله معه من تعز، ومرسل من الاستاذ هاشم.. فقد كان بداخله وعلى ورق مقوى خاص بروتريها جميلا لي.. أسعدني أمر أن وجهي رُسم بريشة العظيم هاشم، وأنه بهذه اللوحة يعمدني صديقا مقرباً، كما قرأ الامر صديقنا المشترك الراحل البهي محمد عبدالباري الفتيح، الذي كان قريبا جدا من هاشم كصديق، وجمعتنا الثلاثة لقاءات كثيرة، وحشوش مبجَّل.
كان يحب الناس ويحبونه بشكل تلقائي.. يعرف الناس باسمائهم والقابهم ويمازحهم بتهذب شديد في محلاتهم وخارجها في الشارع والسوق ، قلت له ذات رفقة في شارع التحرير الاعلى هل يعرفونك كفنان يا استاذ ؟! قال أظن أن أكثرهم لا يعرفون حتى اسمي ويعرفون شكلي من كثرة مروري اليومي في ذات الشوارع والأماكن.
- عن مجلة نقش الثقافية العدد (4)