- كتب: محمود ياسين
فكرة البحث عن منابع الرواية ضرب من تقليد تجارب مشابهة، ما الذي لم يكتب بعد! ويتحول إلى عمل أدبي ينبغي له أن يكون مختلفاً وذا رؤية..
تأخذ الوصايا شكلاً متكرراً من تقديم الخبرة في السرد ومضامينه، بين فهم للواقع وربما البيئة وفهم أكثر الطرق السردية خفة وقدرة. على غرار وصايا “إيتالو كالفينو” في (ست وصايا للألفية القادمة)، ومن غير الملزم أن يدهش أحدنا تماماً بأساليب كالفينو والأمثلة التي أوردها عن أساليب السرد.
فأي شيء قد يدعو إليه مثال من نوع (عندما غادروا كان الديناصور موجوداً)، أنا أترجم الآن ترجمة سيئة -غير دقيقة- فما بين القوسين هو اختصار لأحد أكثر وصايا كالفينو أهمية عن واحدة من طرق السرد.
ما يهم هو أن عدد الكلمات متقاربة بين العبارتين، وهل يمكن هنا فهم أن هذه الوصية تخص الدقة أم الاقتضاب.
يلقي أصحاب الأسماء الكبيرة بوصاياهم دون مراعاة إلا لحقهم في تعميم الخبرة الشخصية. يسردونها دون أن يقول أحدهم. أنا أثق بهذه الطريقه وفي كل جملة تأكيد على أن هذا كلام كالفينو وأن هذه استخلاصات كونديرا النابهة، وأن هذا هو العالم الروائي كما وصلت إليه طريقة عمل ذهن تم قبوله من العالم وترجمته على أنه ذهن مقتضب خالص..
ويميزه تحديد وصايا بعينها. كيف يمكن إقناع ميلان كونديرا بفكرة اللغة الدارجة في اليمن ومسؤوليتها عن تحديد المضامين ولم يقل كونديرا أو يشير من قريب أو من بعيد لفكرة اللهجة الدارجة التشيكية وعلاقتها بالمنتج الروائي التشيكي..
فكرة هذه المادة لا علاقة لها بأن كونديرا لا يدري خصوصيتنا. أو أن هذا تبرم من وصايا من خبروا منابع الرواية. كلما هنالك أنه ما من وصية من وصايا الكبار تساندك في اكتشاف أن نمط الحياة اليمنية يمكنه أن يكون روائياً بحال..
فكرة العودة إلى الجذور والكتابة فيها قد تم تداولها بشكل أصبح من المتعذر معه تكرار التجربة أو محاكاتها.
لنجرب مثلاً أن كاتباً يعود من صنعاء إلى قريته ويحاول استعادة نساء الماضي ليبدو أن إحداهن عادت للتو من موسم الحج وأخرى ترحب به بيدين معروقتين وكيف أنه تجول في (مراتع الطفولة) دون أن يجد طريقة للتخلص من كلمة مراتع .
ما الذي سيكون مدهشاً في مثقف يحاول من قريته أن يكون روائياً أثناء حيرته بين أن يشفق على نساء الماضي والأيدي المعروقة وبين حاجته الايروتيكيه لماضيهن
مع التأكيد على أنه كان في تلك الأثناء لا ينفك يفكر في واقعية ماركيز السحرية وتحويل كل الذي تم سرده في القرية إلى سردية طويلة في رواية متضمنة لحكايا الجنيات والفضائح الأخلاقية التي أخذت شكل حكايات عن نساء تحولن إلى أشباح .
لا نزال في مثال (محاولة إنجاز رواية العودة إلى الجذور) لنجرب مثلاً القبول بأهمية أن هذا العائد يسرد أيضاً رواية كيف يكتب رواية فهل يكفي أن يستمر هذا الأمر برعاية من دهشة أن يتلاعب هذا الروائي المزعوم بمصائر القرويين ؟وفقا لحاجته الشخصيه للا نتقام والتكريم
وعلى افتراض أنه اقترح (لأمريه الاسم المتداول في ريف اليمن، اقترح لها أطفالاً بعيون جميله وخريف عمر مشمول بالتكريم. مع إضافة أسباب وجيهة لأن يمتلئ جسد أمرية وتصبح في بداية الخمسينيات ويديها غير معروقتين..
يكتشف الروائي المفترض هذا أن كل الذي يقوم به هو انتزاع مشاهد من أفلام ومن روايات وأن هذا غير كاف (بتحسين ظروف خريف أمريه) ليس كاف لأن يدهش قارئاً مهماً بحجم كونديرا…
يبدو العالم الروائي مليئاً أكثر من نمط حياتنا بأشياء لا تستطيع ذاكرة القارئ اليمني تجاوزها. أين يذهب ذهن أي منا بكل تلك التفاصيل في غرف وممرات الروايات. أجهزة البيانو. والياقات واللوحات
ناهيك عن السيدات وقبعاتهن.. وكيف يمكن يمننة ليال الملذات ومآس الحروب..
يمكن اقتراح أن أشكال الحياة البدائية في أفريقيا مثلاً قد تحولت إلى روايات صنفت على أنها عالمية..
غير أن ذلك النمط من الحياة هو متداول أصلاً. وذهن العالم يفهمه ويمجده أحياناً كثيرة.. ويدرك إلى أي مدى هو تلقائي ومنسجم والأمر هنا في حاجة مشروع مقترح روائي يمني لقارئ أولاً. وبالتالي لذاكرة روائية لم تقرأ شيئاً عن الغرف والأجهزة الموسيقية وفضائع الحروب. ولم تقرأ عن الواقعية السحرية أو أن تتورط مثلاً في دليل من نوع أن نتاج أمريكا اللاتينية سرد حياة أمريكا اللاتينية بدون هذا الكم من الغرف واللوحات والقبعات المتطايرة من روايات أوروبا التي تعرف العالم من خلالها على فضيلة الرواية.
أحاول أن أتذكر غرف وبيوت (مائة عام من العزلة) أشعر بالمكان جيداً، ولا أدري هل كان هناك شيء ما روائي تماماً في الحمام الذي كانت تقف فيه فتاة (مائة عام من العزلة) الشهيرة -التي طارت في سماء القرية فيما بعد- تقف عارية ترتجف بين العناكب وجدران الحمام البدائي.؟ يصلح هذا المشهد في أي قرية يمنية. حمام مليء بالعناكب والجنسانيه. العالم الروائي وأنت تختبره. يأتي بالحياة التي تذكرها والحالات كلها. وعلى أن المآلات هي ما يهم آخر الأمر. تعيد ترتيب مراحلك العمرية على شكل شخصيات روائية تكمل كل الذي تركته أنت قبل النهاية وفي المنتصف. وهذه واحدة من أهم وصايا كونديرا التي قدمت على أنها ليست وصية. إذ عرف كونديرا شخصياته الروائية على أنهم – السيرة الكاملة- أي أن كل واحد من أبطال رواياته الأجزاء الكاملة من شخصية كونديرا قام كل بطل بما كان كونديرا قد توقف في حياته عن القيام به تماماً.. كتابة العالم الروائي هو إعطاء الإنسان طاقته القصوى..
لقد مات بعض أصدقائي.في المرحلة التي حلمت فيها اأن أموت .وبذات الطريقة التي اتبعوها في موتهم الغياب المؤثر الذي أراقبه وأرى فيه أصدقائي يفتقدونني وكأن الوجود يتحقق كاملاً من خلال ما تقدمه للعالم من نهاية.
عبدالله طه الذي مات وهو عاقل تماماً، ومات بدون رثاء ولا تمجيد وكان متواضعاً في موته بدون أسئلة وجودية ولا التباسات بشأن المصير الإنساني. مات على طريقة لحظة أن فكرت في الموت بدون جلبه.
أبطال رواياتنا هم هم نسردهم أثناء حاجاتنا المتقلبة لنهايات ملائمة لكل مرحلة مزاجية. غير أنهم لا يعودون أبطال روايات مطبوعة على ورق، بقدر ما هم طريقة للتخفيف من تطلبنا الوجودي، ومادة سرد شفهي لأصدقاء نعرف إلى أي مدى تؤثر فيهم حكايات رحيل أصدقاء آخرين وتبدأ اللعبة بالتالي عقب أي عملية سردية من نوع قصة موت عبدالله طه وكيف أنه مات بدون جلبه، تسردها فتحصل على دافع جديد لكتابة رواية.
مباشرة يخبرك الصديق الجديد أن طريقة موت صديقك القديم تصلح في رواية.
ولطالما كان عبدالله يتمنى لو أكتب قصص. إذ كان يعتبرني أديباً يقول كل الذي بوده لو يقول هو للناس..
إن كارثة اللحظات المؤثرة، وهذا النمط من رثاء الحياة التي تنتهي بدون جلبه وتحويل الأمر إلى نص أو جزء من نصل من رواية لهو أمر بالغ الشناعة.
إذ لم أتمكن من الشعور بعبدالله إلا لحظة حاجتي لنموذج سرد وشاهد على معضلة أخلاقية تدور حول الحق في توظيف ما حدث للناس القريبين في عمل أدبي.
حتى أنني ولو لم يكن عبدالله قد أوصى يوماً بأن أكتب القصص لكنت قلت أنه أوصاني بكتابة القصص.. لا أدري هذه اللحظة على وجه الدقة هل حدث ذلك أم لا.
وهل هذا (اللا أدري على وجه الدقة) هو العالم الروائي ؟
لقد مات عبدالله حقاً. مات حين وصلت إلى مرحلة عمرية ومهنية بحاجة بحاجة إلى التفكير بصوت عال في كل الذي أخفقت في التواصل معه كما ينبغي. عندما تنذر حياة الناس للتفكير بصوت عال وبخسة..
خسة يتم تفسيرها فيما بعد على نحو روائي قاطع. يملك الحق في اقتراح أشياء كثيرة للذي مات. حتى أنه (نظرياً) قد أختلق أكاذيب لشخصية عبدالله وأترك جثته تتحلل في الأكاذيب وأقول أنه قام بما لم أقم به..
يمكن كشف كل الهويات المفترضة في رواية افتراضية. عالمنا اليمني ضيق والأصدقاء لا يجيدون إخفاء شيء. ومن خلال محاولات سابقة أظنني كنت لأقتل بسبب سرد فضائع كل الذين أعرفهم.
باءت كل محاولات التضليل بالفشل ومع استمرار المحاولة الروائية فقدت انتباهي لأي حاجة إنسانية عدى حاجة العالم الروائي ونهمه وإذا بالأسماء تكتب كما هي صريحة.. والذي كان في بداية المحاولة الروائية (عزيز) يصبح عبدالعزيز كما هو مفضوحاً ومحتقراً. لا أحد يدري أو يمكنه الجزم في القرية أنه (محتقر) كلما هنالك أن الرواية وهي تتقصى عوالمه السرية وتمنح نفسها الحق في ربط أسراره الشخصية بكل الذي قيل عنه جعلت منه محتقراً روائياً بامتياز.
وربما يكون ذلك معنى أن أهمية حياتنالا تكمن في طريقة حياتنا بقدر ما هي في طريقة رواية هذه الحياة لأنفسنا وللآخرين.
سمعت هذا من سيدة اسمها صفية في قصة عن امرأة قامت هي الأخرى باختراع ظروف أخرى أقل قسوة لرجل كانت مغرمة به.
ما يهم هنا ليس في تبيان إلى أي مدى أن محاولة الروائي المزعوم جعل حياة أمرية أقل قسوة.. جاءت من اقتباس طريقة صفية ولكن اقل من قسوة العالم الروائي ذاته وهو يحيل طريقة صفية الإنسانية إلى نوع من تمجيد النبل.
ولو لم يقم العالم الروائي بكشف نبالة صفية في اقتراح حياة جيدة لحبيبها. لما حدث ذلك أصلاً. إذ كيف يحدث أمر مفيد كهذا ومؤثر إلى هذه الدرجة دون أن يتم سرده فيما بعد…
ويصبح أمر تداول حياة رجل صفية على ذلك النحو المتفائل غير وارد البتة. فهو قد حدث تكريماً لمستوى السرد وتلبية لحاجة العالم الروائي لهذا النوع من العروض المدهشة التي تدخل في بعضها وتفسر سلوكيات العمل الكبير (الرواية) في تفاصيل السرد روايات صغيرة داخل الرواية. ناهيك عن هذا النهم في توظيف كل الأشياء ضمن فلسفة رواية الأشياء.
أي استحواذ وأنانية أكثر من أن يقوم أحدهم في رواية ما بتبيان أن أهمية الحياة لا تكمن في طريقة العيش وإنما في طريقة رواية أحدنا لحياته لنفسه وللآخرين..
على غرار الصعود والهبوط مع موت عبدالله طه، من التوظيف إلى الاعتراف ببشاعة التوظيف، على أن نغمة ما في محاججات الراوي تؤكد بلا هوادة حقه في الاستسلام الكلي لطريقة سير العالم الروائي وحاجته للسرد الحاذق أكثر من حاجة البشر للسمعة الجيده
هذا الذي قيل كله – يدور حول فكرة التكرار- وحول هذا المنغص من أننا في اليمن بحاجة لأعمال روائية. والمحاججة بشأن افتقار نمط حياتنا لشروط العالم الروائي هي استجابة متواضعة لذات السؤال…
في أي تجمع لمثقفين استحضروا روايات تروقهم. يتم تداول هذا الهم الزائف بشأن غياب الرواية اليمنية، أو انعدامها ربما.
مع أن أحداً لا يسهر حقاً بسبب أنه لا يوجد روائي يمني مهم الآن على الأقل، أو أن يقول أحدهم لنفسه! حياتنا ثرية بضروب المآلات والصلاحية السردية الروائية.
أو أنه مهتم حقاً بجدوى معرفة العالم لنمط حياتنا اليومية خارج دراما حياتنا، وأن يعرف العالم ذلك من خلال رواية.