- كتب: ضياف البراق
إلى عبدالله شروح:
الساعة الآن العاشرة مساءً، وغرفتي ليست مضاءة. أنا بخير كما أظن. أرجو أن تكون بخير أكثر مني. لديّ من القات الهمداني ما يزيد عن حاجتي، ربما. سجائري الشملان فائضة أيضًا. أفكر في إشعال شمعة صينية لكن كسلي الغالي يقول لي لا تفعل. بالطبع لن أفعل. حتى الشمعة نستوردها من الصين. الصين وما أدراك ما الصين! أمامي، على الطاولة الصغيرة، عدد قديم من مجلة العربي. لاحقًا ونهارًا سأقرأ هذا العدد الذي فيه ملف خاص ثري متنوِّع عن كاتبنا العظيم نجيب محفوظ، احتفاءً به في مئويّته. قصة عشقي مع هذه المجلة المرموقة ليست سطحية ولا قريبة بل عميقة وبعيدة. جاري السكران تراجع عن تطليق زوجته، وهذه تراجعت عن مغادرة البيت. الأزواج في حارتنا يؤكّدون كل يوم أنّ داروين لا يزال على حق. كنتُ الليلة الماضية أكتبُ مقالة إبداعية طويلة بعض الشيء، عنوانها (حول الله)، لاحقًا ستُنشَر على منصة جديدة في وسائل التواصل الاجتماعي. الصراحة، أنا مستاء منك؛ لم تعد تسأل عني كما من قبلُ، ولا تقرأ ما أنشره في صفحتي على الفيسبوك. لا بأس. بالطبع لا أدري سببًا لهذه المقاطعة أو لهذا النسيان. وهنا لستُ أعاتبك يا صاحبي، حاشا، وإنما أجدّد حبي لك، حبي الكبير الذي يستحقك عن جدارة، وتستحقه أنت بالتأكيد.
جميعًا، ها نحن نغرق في فوضى تكرارية عُنفْيّة قد لا تنتهي في المستقبَل المنظور. نحن نتكلم ونكتب لكن القاتل الهمجي يقتلنا حتى لو سكتنا. حتى الموت، كلامنا لا يهزّه ولا يعجبه ولا يُلفت نظره. ونقول كل يوم إننا سننجو ونحن لا نعلم متى ستكون هذه النجاة التي نرتجي. في الشارع هذا اليومَ سألني مواطن مطحون: هل ستنتهي هذه الحرب؟ ومتى؟ وتنهّدَ بمرارة كمن يحاول أن ينخلع عن جسده ويرتاح. وأجبته بأنه لم يبقَ من عمر الحرب سوى القليل ولكن هذا القليل يحتاج منّا إلى صبر طويل. فتركني الغلبان على الفور، لم يقنعه كلامي فانصرفَ وهو يلعنني ويبصق على سؤاله وجوابي معًا. فهل عندك إجابة أفضل لتقنعه بأسلوبك الخلّاب وتعيد إلى نفسه بعضَ الأمل؟
كما تعلم وترى، يزداد هذه الأيامَ الكلام على الثقافة والمثقَّفين، على الكتابة والكتَّاب، على الشعر والرواية والأجناس الأخرى. كلهم ينظِّرون بلا كلل ولا مَلَل ولا رؤيا وخبرة. إننا حاليًا نبدو كأننا نهرف بما لا نعرف. هكذا اضطررنا أن نكون في زمن الحرب. فهذا يكتب أبياتًا عمودية، وهذا يكتب قصيدة نثرية، وهذا يكتب كيفما اتّفق، وهذا يعجن أي شيء ويخبز منه مقالًا ضخمًا لكن فارغًا، وهذا يقول أي شيء، الكلام يسيل بغزارة، ويتراكم حولك مثل مقاطع البورنو، فتشعر بالضجر واليأس وأنت تقرأ ما يُكتَب أو تسمع ما يُقال، لكنك أيضًا قد تشعر بما يشبه الأمل لبعض الوقت. إنهاك اللغة بهذا القدر من الجنون العبثي المتواصِل صار يرعبني. فلنرحم لغتنا ولو ساعةً أو يومًا. ولعلك يا شروح تتساءل مثلي: لِمَ كل هذا اللغو الجارف؟ وماذا نستفيد منه؟ الكثير منّا، نحن حملةَ الأقلام والأوهام والضغائن، يتكلمون لغوًا، ويكتبون لغوًا، ويتنافخون فخرًا بأنهم يصنعون بطولاتٍ أدبيةً هائلة ستحرر الشرق والغرب في آن. وإنّ أدبنا اليومي الفيسبوكي، هذا الذي نصنع فيه من الحَبّة قُبّة، فأكثره في الحقيقة عديم فائدة، للأسف.
الأدب الوطني الكفاحي الحر الشجاع النزيه هو ما نحن اليومَ بحاجةٍ إليه للخلاص من هذه الأوضاع الخطِرة الصعبة التي أرغمتنا نحن اليمنيين على أن نعيش في تعاسة لا حدود لها. نريد أدبًا يدفعنا للخروج من هذه العبثية الفاتكة لا للاستسلام لها. أتكلم عن أدب يجري في خدمة الناس المنكوبين والمسحوقين، أي الناس الملسوبة حقوقهم، أدب يكافح بإخلاص للسمو بهؤلاء، لا لإحباطهم وإتعاسهم واحتقارهم. فالأدب الحق هو ما نكتبه لتحرير الشعب وكسر عزلته وتحطيم قيوده، ودفاعّا عنه، ولا نكتبه لتدمير هذه الروح الجماعية الوطنيّة وتمكين الظلمة والفسدة وتجّار الحروب من النيل منها. أدب تنويري إنساني مستقبَلي لا رجعي ماضويّ رث. فلا شيء غير الأدب الجميل الصادق نجد فيه عزاءنا ودواءنا لا سيما في هذه المرحلة من الحربِ العُضَال. آفة مجتمعنا، الجهل بكل شيء. لا بُدّ إذَنْ من التنوير الحقيقي. لكن التنوير لا يفرض نفسه إلّا إذا كانت غايته نبيلة، ويسير بأسلوب ذكي غير عشوائي ولا مندفع بحيث لا يبدو عدوانًا على يقينيات العامّة وثقافتهم الموروثة المترسخة في أعماقهم وذاكرتهم. لن ينجح التنوير الذي يجري بعجرفة عقلية شاطحة وحماسة تعبيرية متوترة فجة ويريد أن يدفع الناس إلى سرعة التخلي عن تراثهم الذي يستمدّون منه استقرارهم النفسي وأملهم الوهمي. ومثل هذا التخلي سيجرفهم إلى هاوية العبثية. تنوير صارم جاف شاطِح يخلو من الذوق اللطيف وطراوة المحبة واللغة البسيطة، فهذا لن ينجح أبدًا في إقناع الناس وتغييرهم لأنهم ببساطة لن يتفاعلوا معه ويثقوا به. وحدها الكلمة العميقة والبسيطة والجميلة بمقدورها إحداث هذا التغيير المطلوب، بنجاح.
ها إنني أكتب إليك بجنون الشوق، أبتغي معانقتك فحسب، بقلبي الذي يرتجف من الحب دائمًا. طبعا لم أعد، ومنذُ نحو شهر، أكتب شيئًا ذا قيمة. وأما القراءة، فلم أعد أقرأ بمثل شغفي السابق الذي كنتُ ألتهم بواسطته كتاباتٍ لا تُحصى، الليلَ والنهارَ. ثم، هل سبق وأن أخبرتك بأنني مسكون بالخوف أو بما يشبهه منذُ أن وعيتُ نفسي؟ وحتى الآن لم أجد تفسيرًا لهذه الحالة الغريبة. أظنها أحيانًا حالة طبيعية، وأحيانًا تبدو لي أنها حالة مرَضية. مِرارًا سألتُ نفسي، فلمْ أجدْ جوابًا شافيًا مُقنِعًا، فأَجِبْنِي أنت لكونك أكثر مني تفكيرًا وتحليلًا وفهمًا وعمقًا. أشهد لك بذلك عن ثقة ومحبة صادقة. ثم ولا شك أنت كاتب عظيم، وأنا منذُ قرأتُ لك أول نَص أصبحتُ مدهوشًا ومخلوبًا بجمال وفرادة ما تَكتُب. كتاباتك بحق تُضيئنا باستمرار. إني خائف الآن، خائف دون أي سبب، فهل لديك تفسير لهذا الشعور؟ وبالطبع، فهذا لا يستحق منك أي نظر أو اهتمام، فلا تكترث له، إنه لمرضٌ سخيف، وما أكثرَ السخافاتِ في هذا الزمن الانفلاتي! لكن، دعني أعترِفْ لك لأول مرة بأنّ حياتي بكاملها تخلو من حقيقة الشجاعة، وفي الوقت ذاته لستُ جبانًا على الإطلاق. ولا أدري كيف. والحق، أنا لست أشعر بأني شجاع حقًّا، أو غير جبان، إلَّا وقتَ انغماسي الكامل في شهوة الكتابة، ومن خلال رقصي بالكلمات، فإنّي أسعى، وفقط، إلى تحرير نفسي من أمراضها المختلطة، وشكوكها الضارية، وخوفها هذا قبل كل شيء. نعم أنا لا أجرؤ على الزعم بأني أكتب من أجل تغيير العالَم. واسمح لي هنا أن أستعير من بوكوفسكي قوله “أنتم غيّروا العالم وأنا سأكتب كيف غيرتموه”.
غالبًا، أنا خائف قبل الكتابة، ويعاودني هذا الخوف بعد فراغي من كتابة أي شيء، كما تُخيفني أو تُقلِقني مسألة نشره. وبشأن القراءة، فإنني، رغم قلة الشغف، مواظبٌ عليها مثل الصلاة (طبعًا أنت تعلم أنني لا أُصلّي)، لكن الكتابة تأخذني إلى فضاءات ماتعة ودافئة، نادرًا ما أصل إليها خلال القراءة. الكتابة تضمّني، توحِّدني، تستجمعني من تمزُّقاتي وشتاتي، القراءة تُخلخلني، تُفكِّكني إلى أجزاء صغيرة، وتُضجرني أحيانًا. غير أن هذه الحالة ليست ثابتة على الدوام، فأحيانًا أجدني أحسن حالًا في القراءة، وأجدني خرابًا في الكتابة. ثم، عندما أقرأ، أشعر بأني أبني نفسي فقط، لكن عندما أكتب، أشعر، بشكل أو بآخر، قليلًا أو كثيرًا، بأني أساهم في بناء العالَم. ألا تشعر أنت أيضًا بهذا؟ فأرجوك ألّا تنزعج من كثرة كلامي، ودعني أكتُبْ المزيد هنا. احتملني كما لو كنتَ الآن تستجمِع نفْسَك المتشظية وتكتب بحماسة وسخرية عن الحوثية والشرعية والتوتُّرات الأخيرة بين الروس والأوكران. ها أنا أرتعد خوفًا من هذه الساعات وهي تمضي بسرعة عجيبة فتّاكة، حتى لتبدو وكأنها تهوي بي في جحيم أوسعَ وأعمقَ من جحيم هذا الوطن المنكوب كاملًا. ثم إنني، على عكس الجميع، كما أعتقد، أزداد خوفًا من العالَم كلما زدات حُرّيتي منه. صديقي المُنفْرِد، لن أطيل عليك أكثر من كذا، ولذا فسأختم كلامي بقولي الصادق: أنت أجملنا، إنسانًا وقلمًا ونظرًا. فرادتك الأدبية الجادّة إنما تعكس جمالية شخصيتك الحقيقية النقية. ومستقبَلك الإبداعي أعظم. فإلى لقاء أطيَب. وليحرسك المولى من جميع ما تكره. ولسوف أكون أخاك الأصدق وصديقك الأوفى. وأكيدٌ، سنكون دائمًا معًا.