- كتب: عبدالجبار الحاج
على مدى قرون عدة ومن التاريخ، إبتداء .. فأن العاصمة الأوكرانية كييف كانت بداية التشكل والنمو لوطن القومية الروسية، فكانت من كييف انطلاقة روسيا الصغرى، قبل أن تتحول العاصمة إلى روسيا الكبرى موسكو.. وفي الجغرافيا وحدة ثقافة وهوية وتعايش ودول ونظام ومن المشتركات واحدية اللغة وفي الدين كنيسة أرثذوكسية قامت عليها ومنها مسيحية الشرق ..
من الناحية الجيوسياسية بحسب ما ذهب إليه الأستاذ جميل عبداللطيف في مقال قرأته عنه على الواتس أب _ “هناك مناطق تعتبرها روسيا مناطق نفوذ روسي وممنوع على غير روسيا أن يكون لهم نفوذ فيها، هذه المناطق من آسيا الوسطى وحتى القوقاز وأوكرانيا.”
وحدود تمتد متلاصقة مع شمال الصين وشرقها على شكل قوس يطوق أقصى الشرق الصيني وصولا إلى حدود كوريا، وعلى امتداد أراضي بلدان وسط آسيا تتحرك المصالح الصينية الاقتصادية وتتنامى من خلال مشروع الحزام والطريق الصيني جنبا إلى حنب مع مصالح روسيا، دون تنافر يفضي إلى مخاوف وصدام بين هذين القطبين في المدى المنظور .
وللحديث عن الصين وروسيا مجال آخر، وسياق مختلف عن سياق الصدام الشرقي / الغربي أو سياق التمدد الروسي نحو الغرب مرورا من أوكرانيا ومتجها إلى مابعد أكروانيا قاصدة بلدان أوروبا الشرقية التي تنظر إليها روسيا مجالها الحيوي القادم، وليست مجرد مجال صار من التاريخ السابق لتسعينات القرن العشرين كما أراد الغرب مستغلا فترة السقوط السوفييتي والتسابق على غنائم ما تركه إرثا للمتسابقين عليه .
……
…….
على مجرى نهر بريبيات الممتد من روسيا إلى بلاروسيا ثم من شمال أوكرانيا، إلى جنوبها وصولا إلى البحر الأسود حيث تقع شبه جزيرة القرم جنوبا من النهر..
وفي القربى أواصر دم ولغة ودين .. فمن أين تأتي بعض الأصوات الغريبة على تاريخ هذا البلد وجهلها المتمادي بحقائقه، في حديثها عن وطنية قومية قائمة بذاتها مختلفة ومتناقضة عن الوطنية الروسية؟! فالبناء على منطق يعتمد على الكذب والتزوير يقود إلى استنتاجات ونتائج مقلوبة حتما ..
أمتلكت روسيا سدس مساحة العالم في الحقبة السوفيتية، وثُمن مساحة العالم هي روسيا وحدها، إلى ذلك فروسيا كقوة عظمى تعرف ما الذي تفكر به بقية القوى العظمى في العالم ومالها من أطماع سواء في أراضي روسيا الشاسعة جداً وما تحتويه من ثروات أو في محيطها …
والتاريخ الطويل يؤكد لروسيا أنها قد تعرضت لحروب كبرى وحققت فيها انتصارات، والحقت الهزائم بالمعتدين من نابليون في القرن التاسع عشر إلى هزيمة هتلر في الحرب الوطنية العظمى أبان الحرب العالمية الثانية ..
إلى ذلك فروسيا بلد يتسع لتسعين قومية منها الروسية تشكل أغلبية نسبية توطدت عراها والتحم نسيجها الواحد عبر مشتركات من التاريخ ووحدة مصير أنصهرت في وحدة مجتمعها ولحمتها الصلبة ..
على هذا التنوع بنت قوتها وتماسكها، وعلى هذا النحو من الاتساع الجغرافي والتنوع السكاني والتسامح والتمازج الثقافي ومن تاريخ لا يغيب عن الحضور الواحد لمجموع قومياتها ..
يقول الأستاذ جميل عبداللطيف : “أوكرانيا تاريخياً هي ضمن الجزء الذي يمثل قلب الأمة الروسية.. أصلاً القومية الروسية أول ما ظهرت كان ظهورها في كييف عاصمة أوكرانيا (دولة كيييفسكايا روس)، من حيث التسمية هناك روسييا Россия وهناك بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وهناك مالا روسييا Малороссия وهذه مالا روسييا (روسيا الصغرى) هي الإسم التاريخي لأوكرانيا، يعني الكل روس تاريخياً.”
في هذه اللوحة وعليها ترتسم الحالة الأوكرانية، ومنها ينظر الروس إلى أوكرانيا، كعضو منها لا يصح كسره بالقوة مهما لزمت كما لا يجوز بنظرهم ترك مغامري السلطة أن يسلخوها عن روسيا .
كما أن هناك شريحة غير بسيطة من الشعب الأوكراني_ كما يقول جميل عبداللطيف _ لا يرون في روسيا أنها عدو بل جار جيد وممكن التعايش معه كما حصل عبر التاريخ الطويل (يعني لن تقابل القوات الروسية مقاومة شعبية قوية)، ثم إن المخابرات الروسية قد تكون نخرت الدولة الأوكرانية نخراً عظيما (في الأساس تعتبر أوكرانيا كدولة وكجيش وكمساحة وكشعب مكشوفة تماماً تماماً للقيادة الروسية وذلك منذ العهدين القيصري والسوفيتي).
“حالياً يعتبر شرق أوكرانيا تحت الحكم الروسي، ولن تجتاح القوات الروسية إلا الوسط والغرب، مع ذلك فإن روسيا تهدد الناتو بأنها ستتحرك باتجاه بقية دول أوروبا التي كانت تحت النفوذ السوفيتي.”
لذا فصوت الشعب الأوكراني في الشرق الأوكراني في دونيسك، هو ليس صوت الانفصال لكنه صوت الرفض الشعبي لنهج العداء المصطنع من ساسة كييف بماهو صوت الانتماء الأوكراني، الصوت الرافض لنهج التحول الشاذ والمعادي لحقائق التاريخ والجغرافيا الذي لابد أن يعيد أوكرانيا إلى مكانها ومكونها الأصيل كشعب ولغة وقيم واحدة مع روسيا .
إذا كان صوت الانفصال في دونيسك تعبيرا عن رفض الشعب في الشرق الأوكراني لأهواء الساسة المنفصلين عن شعب أوكرانيا، فإن هذه واحدة من نقاط القوة التي تمتلكها روسيا فان نقطة القوة الثانية، أن الشعب الأوكراني على الضفة الأخرى في غرب أوكرانيا لن يكون وفي أسواء الأحوال في صف مشروع حكومة كييف التي تغامر بمكانة البلد وتاريخه وهويته، في عداء وحرب لا لزوم لها ضدا من شعوب روسيا قاطبة طمعا في عضوية للناتو تجعل من بلدهم مجرد مخلب أذية بيد الغرب ضد روسيا .
إذا كان هذا موقف الشعب في أوكرانيا ففي الدوائر الغربية لدى أصحاب القرار الطارئين في كييف، في حين أن وجهة الغرب وأعلى سقفها معلومة تماما في حدود ما ستذهب إليها وأقصى مستوياته حسب تصريحات الساسة الأمريكان هي العقوبات الاقتصادية، من هنا وقياسا عليه فان حدود الرد الأوروبي على تفاوت مواقف دوله هو الأخر سيكون أقل مما ستذهب إليه أمريكا في حال أضطرت موسكو إلى خيار الحسم .
ذهبت الحكومة الأوكرانية بعيدا في الرهان على دور غربي أمريكي أوروبي ينقلها إلى وعبر عضوية موهومة في الناتو،
وفي ظل تصاعد أجواء التوتر تبدو مسالة عضوية أوكرانيا في الناتو مجرد سراب يبتعد أكثر، كلما اقتربت المسافة من لحظات الحسم..
وفي ظل تصاعد الأزمة وعسكرتها، ستجد جماعة السلطة في كييف نفسها وحيدة عزلاء عن الشعب ومعزولة من السلطة، وفي الحسم فان الدور الروسي في الحسم ينبني في سيناريوهاته الروسية قائما ومعتمدا في أوكرانيا كلها على خيار شعبي حاسم لا يعادي روسيا ولا يريد الحرب، وهذا في أقصى الغرب الأوكراني وفي الشرق منها خيار شعبي أكثر ايجابية مع السيناريو الروسي، متمثل فيما يطلق عليه الاعلام الغربي بالنزعات الانفصالية في مناطق دونيتسك، وفي كل شرق أوكرانيا في النطاق المحاذي للحدود الروسية ..
من هذه الحقائق والوقائع، يمكننا فهم الحالة الأوكرانية كما هي الواقع، ومنها يمكننا تفسير الموقف السياسي الغريب والدخيل والنقيض للحالة الأوكرانية في محاولة قلب التاريخ، وفي محاولة عزل أوكرانيا وطنا وشعبا عن هويتها وتاريخها وموقعها إلى الموقع السياسي والعسكري الخادم للغرب .
وعلى هذا نختم مقالنا بقراءة للحل في المشكلة الأوكرانية تقوم على أحد السيناريوهين :
اعتماد روسيا على خيار شعبي في أوكرانيا يرفض الحرب معها في غالب أطيافه من جهة ويرفض خيار المقاومة المسلحة، ومن هنا فان السبيل مفتوح أمام حركة شعبية أوكرانية تواكب تحركا سياسيا يطيح بالحكومة الداعية لحرب يعزل أوكرانيا ويلحقها بمشروع غربي أمريكي.
السناريو الثاني: يقوم من جهة روسيا على استمرار في الضغط والتطويق العسكري إلى درجة يصبح فيها الضعف والعزلة لحكومة كييف، بحيث لا يبقى أمامها من خيار بحيث تصبح القوى الانفصالية في الشرق، بتحالفات مسبقة مع قوى سياسية في عواصم أوكرانيا، وربما لا تحتاح فيه روسيا إلى تحرك وتطويق سريع يتبعه سقوط لحكومة حالية، وصعود لقوى أخرى قريبة من روسيا فيكون الوضع أشبه بعملية تكون أقرب في فعاليتها وسرعتها من عملية تطويق واستعادة شبه جزيرة القرم التي وقعت عام ٢٠١٤ مع فارق في زمن الخطة وتنفيذها .
ولا نستبعد أن تلجأ روسيا إلى أسلوب ثالث، إذا ما اقتضت الضرورات تحاشي الخوض في معركة طريلة من اللجوء إلى سيناريو ثالث يعتمد تقطيع مراحل الحسم من منطقة ثم فترة هدوء تليها معركة في منطقة تالية .
إلى هنا وما بعد أوكرانيا فان مرحلة من الصراع الروسي الغربي، ستتخذ أشكالا أوسع وأعمق، حيث تتجه الاستراتيجية الروسية في عهد بوتين إلى التوسع في مجالها الحيوي في بولغاريا ورومانيا وبولندا وفي عموم ما كان يعرف ببلدان أوروبا الشرقية .
…………….
…………………….
……………………………
20/2/2022