يا حي يا قيوم..
للقاضي عبدالرحمن بن يحيى الأنسي
- كتب: حسن الدولة
عندما أستمع للفنان القدير صاحب الصوت الرخيم ، الذي مثل الأغنية الصنعانية الاصيلة والتراث الصنعاني الجميل لحنا وأداء بإمتياز الموسيقار أحمد السنيدار مد الله بعمره وهو يغني قصيدة العلامة عبد الرحمن الأنسى الموسومة ب : “يا حي يا قيوم ” ينتابني شعور وإحساس غير عادي هو من ذلك الجذب الصوفي الميتافيزيقي نحو عالم لا تستطيع الكلمات وصفه لأن اللغة مرتبطة بعالم المادة؛ وتلك الحال من عالم له وجود غيبي – ميتافيزيقي – .. وكما جاء في الحديث أن في هذا العالم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ؛ فكلما هجمت على هموم الحياة ووساوسها الشيطانية أفر إلى سماع هذه الأغنية التي روي عن الإمام يحي حميد أنها تصلح قنوتا للصلاة لو لا قوله (عن ساكني صنعاء حديثك هات وأفوج النسيم ) وما بعده….
وحقيقة أن القصيدة مناجاة لله بأعظم الكلمات الشجية النابعة من أعماق أعماق الشاعر ومعاناته …
ويشعر بمدى عمق حزن الشاعر وفعلا أنها كلمات تحمل في طياتها مأساة عصر الشاعر والتي تشبه هذه المأساة التي نعيشهة اليوم في ظل هذه الحرب العبثية التي تكاد تعصف باليمن، حتى ضاقت بنا أحوال البلاد والعباد وضاع الإجتهاد والإحتيال نعيش نفس مأساة الشاعر ومعاناته وأهوال عصره وحقيقة أن التاريخ يعيد نفسه وإن بصورة أخرى فمن لنا من منقذ سوى رب العباد، لنسأله كما ساله الشاعر بان يذهب الأحزان والأمحان باللطف الخفي؛ وان يداوي بالصلاح داء الفساد الذي أستشرى بين العباد بهذه الكلمات التي تفيض بالحرقة والألم الشديدين الذين عانى منها الشاعر..
فلنتضرع إلى الله مع الشاعر ونقول لقد خابت الأمال في صلاح أحوال العباد ولندعو الله بأن يعجل لنا الفرج وحسن المخرج :
ياحي يا قيّوم
يا عالم بما تخفي الصدور
يا رازق المحروم
يا من بحر جوده لا يغور
يا ناصر المظلوم
يا ذا الإنتقام ممن يجور
يا منفّذ المحتوم
في الساخط وفي الراضي الصبور
أسألك يارحمن
بالنور الذي لا ينطفي
سيد ولد عدنان
حبيبك من توسّل به كُفي
أن تذهب الأحزان
والأمحان باللطف الخفي
وتكشف الاحزان
وتكفينا مهمات الأمور
قد ضاقت الأحوال
وضاع الإحتيال والإجتهاد
وخابت الآمال
إلا فيك يارب العباد
فخفف الأثقال
وداوِ بالصلاح داء الفساد
وسامح المأثوم
واغفر إنك أنت الرب الغفور
من يرحم المضطر
أمّن ذا يجيبه إن دعاهُ
ومن لدفع الضر
وكشف السوء إن أعيا دِواه
إلاّ الله القادر
على ما شا والمقدّر سواهُ
الموجد المعدوم ..
والمعدم وجوده بالدثور
وبعد تلك المناجاة والحرقة يشعرنا الشاعر أن الله قد استجاب لدعائه فيطالب النسيم العليل أن يأتي بالأخبار الشافية، عن صنعاء ويطالبه أن يخفف السير لينقل له الأخبار التي تشفي قلبه المكلوم ؛ مذكرا بالعهود المبرومة التي لا ينقضها مرور الزمن ولا طول العهد فيقول :
عن ساكني صنعاء
حديثك هات وافوج النسيم
وخفف المسعى
وقف كي يفهم القلب الكليم
هل عهدنا يرعى
وما يرعى العهود إلا الكريم
وسرّنا مكتوم
لديهم أم معرّض للظهور
تبدّلوا عنّا
وقالوا عندنا منهم بديل
والله ما حلنا
ولا ملنا عن العهد الأصيل
ما بعدهم عنّا
بغيرنا ولو طال الطويل
عقد الهوى مبروم
أكيد لا ينقضه مر الدهور
وبطالب من من الريح التي تهب من صنعاء إلى تهامة أن تيسر لها الرجوع والعودة إلى صنعاء ان تلمح للناس عما يعتمل في صدره من التبريح والشوق والوجد، فهو لا يحب التصريح مكتفيا بالتلميح قائلا :
بالله عليك ياريح
أمانه إن تيسّر لك رجوع
لمّح لهم تلميح
بما شاهدت من فيض الدموع
والشوق والتبريح
والوجد الذي بين الضلوع
واحذر يكون مفهوم
حديثك انني أخشى النفور
فرغم لوعة الفراق ومرارة الغربة والأغتراب التي يعاني منها معاناته في الغربة، فأن ما يسلي قلبه الحزين هو ان يبلغ المعنى ما لا تستطيع الكلمات المكتوبة نقله :
لكن ما يسلي
حزين القلب تبليغ الرسول
ومن نأى مثلي
عن الأحباب صحح ما اقول
هيهات أن يبلى
بلاغ القول لوعة من يقول
أو يغني المرسوم
عن كاس الطلا لما يدور
كل تلك الأحوال التي أستهلها بالشاعر بتلك المناجاة، ثم تخلص منها إلى الغزل العذري، حتى يصرف الأنظار عن النقد الذي وجهه إلى حكام عصره فان مناجاته طوال شهرين وقد سال دمع العين :
لبست في شهرين
من يوم الفراق ثوب النحول
وسال دمع العين
وطار الشوق بالقلب العقول
وإن طال هذا البين
ما أدري إلى ماذا يؤول
صلوا على المعصوم
شفيع المذنبين يوم النشور
الطاهر الأنساب
إمام الأنبياء زين الوجود
والكاسر الأنصاب
والداعي إلى دار الخلود
والآل والأصحاب
من سيماهم أثر السجود
وفضلهم معلوم
هل يخفي الدجى ضوء البدور .