- كتب: عبده تاج
وأنت تمشي بقلبك على اللوحات التشكيلية لآمنة النصيري، احذر أن تتعثر بلون شارد.. فهي فنانة خطيرة في حياكة اللون وفي نصب فخاخ الدهشة، فنانة تشكيلية عظيمة، انتبه ستسقط في أي لوحة منها مصاب بالصورة الجمالية المتكاملة الأبعاد ولن تخرج إلا وروحك ممتلئة بأشياء جديدة وعظيمة. ابتدأت الفنانة آمنة النصيري حياتها من رداع، المدينة اليمنية، التي هي ككل المدن اليمنية من العيب أن تخرج المرأة عينها من النافذة، حيث يجب عليها أن تعيش في العتمة، وأن تعبد العتمة وتقول نعم دائما، ولكن آمنة ذهبت أبعد من ذلك فأشرعت مكافِحةً تجاه الضوء، فامتلأ قلبها بالنور، وأخصب وعيها بالحداثة والرؤى الحادة والثاقبة، ورفضت كل الأشكال المسبقة من كل شيء. قطعت شوطاً، لابد عظيما، ومعاناة لابد مُرهِقة، لتخرج لنا من أصابعها لوحات تعكس الأعراق الضاربة في التاريخ اليمني وتشتف من الفن العالمي ذؤابتة الجديدة وحلته المناسبة.
البدء الذي منحها العيب والتحريم لكل ما يتعلق بالمرأة، كما قلنا، منحها بالمقابل جوانب مهمة في أعمالها الفنية بعدها، وألهمها كيف تعكس رؤية المجتمع والتاريخ لصورة المرأة، المرأة اليمنية خصوصا؛ آمنة بلا شك، وأنت ترى لوحاتها تجد نفسك أمام فنانة مشبّعة بالتاريخ، مثقفة بالتواءاته وسقوطه وتحولاته وغموضه.. التاريخ اليمني حاضر بغزارة في لوحاتها، فحينما يتعلق بالمرأة، ستجد امرأة في لوحاتها، امرأة لو رأيتها في الشارع تمشي.. قد ترتبك وتسألها.. هل رسمتك آمنة؟
هذه المرأة ترتبط بصريا وبطريقة كثيفة بآلاف السنين من التاريخ اليمني وبعروقه القديمة والأصيلة.. أحيانا في معمارية البناء واحيانا في اللغة، وأحايين في أشياء كثيرة.
فنانتنا الخالقة لديها سنين وخبرات لا تحصى في قراءة التاريخ بعمق وفي تطور الرؤية الفلسفية إما للون أو التاريخ والهوية اليمنية، فحضور الرمز القديم بطريقة حداثية وبألوان مبهرة ونادرة ومتدرجة يجعلك تسلّم بأن هذه الفنانة هي من أعلام اليمن الذي يسعون من قلبهم لأن يعيدوا هيكلة الوعي تجاه مفاهيم كثيرة ليساهموا بصناعة وعي جديد يتلائم مع حاضر متسارع، وليذهب قدما ليلائم مستقبلا مدنيا لدولة قبيلة أرهقها الصراع، إنها أستاذة قديرة ومجيدة في الفن اليمني، نجمة لا تُنسى في سماء الوعي الإنساني ومقدرته على فهم الكون بطريقة أدهش معنى.
في ذلك البدء أيضا، أقصد المكان الأول التي عاشت به الفنانة، أُعطيت الكثير من الصور الجمالية، تلك الصور ذات الطبيعة الجغرافية التي تمتاز بها اغلب مدن اليمن؛ ستجد رابية وكأنها خرجت من رحم شعاب مرجاني مزخرف باللون، حقولاً، سهولا، ستجد تداخل للون وتناسق وكأنك تشاهد لأول مرة تناسقا هكذا.. وليس سهلا على الفنان أبدا أن يقوم بتناسق جديد ويجعل المشاهد يألفها في الوقت ذاته.. ورودا متساقطة في الأنحاء صارت تنمو في اللوحة منذ ألف سنة ذات لون أحمر مضيء ومتوتر، انحناءات عميقة، ظل محدودب الظهر، وزهورا قريبة من السماء لونا ورائحة. للطبيعية حضور واسع في أغلب لوحاتها، أحيانا فقط أرض وسماء.. ولكنهما ليستا عاديتين، إنهما مغلّفتين بالدهشة وواسعتان كسفر عتيق. لشخصيات أخرى أيضا هناك حضور كثيف، قطط غريبة، تقول أعينهن الكثير من الأشياء وترمي الكثير من الأسئلة، طيور سوداء، نساء أو هياكل نساء، ملامح متبقية من نساء، خطوطاً عبقرية، رسمت بعناية وخبرة متراكمة، تشاهدها وكأنها شرايين شلال رفض النزول إلى قرية، جمجمة لامرأة شُكّلت من فرادة أشكال هندسية معمارية يمنية.. وغالبا ما يتداخل مع هذه الشخصيات اللون الأسود أو قد يكون متنها وتشكيلها.. هناك، ستجد اللون الأسود وقد أخذ رائحة جدية، وقد انكفئ في زاوية والتوى في طريق، هناك وهو يتحدث بلغة مبهجة وأبدية. فنانة عبقرية، تكّرس في اللوحة الواحدة مفاهيم لا تحصى وتقول سنين كثيرة من التنظيرات الفكرية.. إن آمنة النصيري كفنانة عالمية، فنانة ممتلئة بالمدارس الفنية والخبرة اللونية المتراكمة والسنين الهائلة من التمرد والشغف، وكيمنية فهي فنانة عابرة للأجيال ومخترقة للمستقبل ورائية عظيمة ومؤسسة لوعي يستند بثقة عالية على تاريخ عريق.. إنها فنانة يمنية دخلت أبواب المجد من أوسع أبوابه.. لذا قلت واصفا إياها في هذا النص، ربما في الأعلى، فنانة مجيدة.. فهي فنانة بحق مجيدة، ولم أبالغ أبدا حينما قلت ذلك.