- كتب: د. عبدالعزيز علوان
الإهداء : إلى مهندس هذه القراءات المهندس عدنان شمسان العريقي
الدخول في تفاصيل الأدب الشعبي ، هو الدخول إلى التفاصيل الموغلة في التوجع ، الشاسعة بآلام الإنسانية كلها ، وما الإنسان اليمني إلا جزء من هذا المكون الإنساني ، الذي أنتج هذا الأدب الشعبي بكل فنونه ، أما لحظات الفرح والسعادة إن وردت في مقتطفات من هذا الأدب ، وخصوصا أغاني المرأة في الريف اليمني ، فهي كسحابة (كثير عزة) التي رجاها سقيا ؛ فلما … جاوزته أستهلت.
الحبشة ، عدن ، الرياض ، كانت المحطات الرئيسة ، للغربة وتغيب الأحباب ( الازواج ) عن زوجاتهم وأبنائهم ، والشواهد الأدبية ( روائية وقصصية وشعرية ) كثيرة على ذلك مثل ( يموتون غرباء ، مسعود هجر ، الأرض ياسلمى ، وغيرها ).
ولم تك الغربة الداخلية فيما كان يعرف بالجمهورية اليمنية ، تشكل خوفا من الغربة الدائمة ، أما متاعبها ( من شوق وحرقة وحنين ) فلم تنضب ..
فإذا كانت الأغنيات السابقة التي أتينا على ذكر ( الحبشة والرياض ) فيها ، فهذي الأغنية قد أستبدلت تلك البلدان بـ ( فرزة تعز ) حين بلغت الغربة الداخلية أشدها :
فرزة تعز لك بحر تغرقي به
من خَلف الحوبان نسى حبيبه
من خلال كلمة (قِرِح) ،فإن القلب ، لم يعد يتحمل المزيد من هذه المعاناة كثيرة التعذاب ؛ والبخت ( النصيب ) قد قيدها وقَفٌل ( اُغلق ) عليها الباب ، دلالة على سجنها المعنوي جراء هذا النصيب:
قلبي قرح من كثره التعذاب
البخت قيدني وقفل الباب
سنوات لا تعد تستفسر عنها ، أو تسأل من حولها عنها بصيغة التعجب ، هولاء الذين ( يكبدوها ) المتاعب ، حتى كاد جسمها يتلاشى .
وفي ظني أن بعضا من هذه المتاعب هي الأقاويل التي يرمونها بها ، مسببةالكثير من الخسائر في عافيتها (غيبة ونميمة) ، وما إلى ذلك من أكل اللحوم البشرية ، ولكنها تعتبر أكلهم القولي لها كفريضة الزكاة التي يجب عليها أن تؤديها:
لكم سنين تُكَبدوا حياتي
انتم لكم لحمي واني زكاتي
المشاهدات اليومية لوجه هذه الأغنية / المرأة ، تجعل الرائي لها ، يسألها عن سواد وجهها ، أستخدمت ( وجيه ) كتصغير واشارة لما تبقى من الوجه ، فهذا السواد ، انعكاس لحالتها الصحية.. فليس وجهها فقط بل أن قلبها تِغَدود (كثرت أوجاوعه ) يقال لما يصيب القلب بأنه مغدود ( إشارة إلى الأمراض الناتجة من إفرازات بعض الغدد ):
من ريتني قال وجيهك اسود
الوجه سود والقليب تِغَدود
لفتة هامة لم تصادفنا من قبل ؛ تتلخص في شكوى البنت لأمها مما حولها من النساء اللواتي ، لا يراعين حق الجوار ، وليس لهن مجير ، سوى الحديد والنار :
نساء نساء يا امه لا جارهن جار
لا جارهن الا الحديد والنار
كيد النساء ، هذا الكيد العظيم الذي ورد ذكره في قصة يوسف ، كمورث بشري ، جعل من هؤلاء يكدن على إحدى العذراوات ، اليتيمات :
كيد النساء وكيدهن عظيمه
كادين على العذرى وهي يتيمه
الحياء من الأم ، ملازم لحياة البنت ، وأية انحراف عن أخلاقيات هذا السلوك ، يشار به إلى الأم ، أو الأسرة
، فلو لا هذا الحياء ، ستأخذ البنت حبيها وتخفيه في كمها ( كانت بعض الثياب القديمه تتميز بكمها ذي الفتحة الكبيرة ):
والله العظيم لو مش حياء من أمي
لا شل حبيبي وعمله بكمي
ظلم الأم للبنت ، لأي سبب كان ، وبالذات تزويجها لمن لا ترغب فيه ، سيعود ندما على الأم إذا ما وافت المنية البنت بسببه:
واني فدا يا مه لتظلميني
شرجع اموت يإامه وشتفقديني
أخيتي ؛ تطلق على المرأة التي تربطها مع إمرأة اخرى صداقة ، تشير الأغنية إلى مدى العلاقه المتينة في هذه الصداقة ، كتلك التي تكون بين( الحمام) المنزلي ، و(العيل) كفصيل للحمام ولكنه بريا ، فهل المقصود بأن هذه المرأة التي تبوح بهذه الأغنية جاءت كزوجة لقريب المرأة الأخرى من خارج القرية ؟ ربما ..
وا خيتي ما مثلنا تآخين
مثل الحمام والعيل لو تلاقين
الأخ الأصغر ، هو الأكثر حبا ، في الأسرة ، كلامه مسموع ، وطلباته تنفذ في الحال كدلال أبوي ..
أشهر أغنية شعبية غنتها المرأة الريفية هي تلك الأغنية التي طلبت من أخيها الصغير، أن يكون وسيطا إلى أبيها ، بتزوجها، مستدلة بما طرأ في صدرها من علامات البلوغ التي خزقت ( أحدثت ثقوبا ) في ثوبها:
يا خي الزغير انت العديل على ابي
قله يزوجني وما يشا بي
كعوب صدري خزقوا ثيابي
كانت هذه الأغنية متداولة في الريف اليمني ، وصارت أغنية أجادت أدائها الفنانه المصرية ( فائزه أحمد) كعمل مشترك مع الراحل فرسان خليفه..
للاخ بشكل عام في الأسر اليمنية مكانه خاصة ، وعلاقة تشبه الأبوة ، مع أخواته ، ولذا فإن الأغنية تقدم نفسها فداء لأخيها ، ولإسمه ، متضرعة من الرحمن أن يصح ( يمد) جسمه بالعافية :
واني فدا لأخي واني فداء اسمه
يا رب يا رحمن تصح جسمه
وتأتي هذه الأخت بأغنية ثانية ، واصفة إياه ، بعشب حنون ( نوع من الشقر ) داعية الله ان يجعل عدوه بالجبال مجنون:
واني فداء لا خي عشيب حنون
شجعل عدوه بالجبال مجنون
تقاسم الرعاية للأخت من الأخوين ، تمكنها من أن تقدم نفسها فداء لهما مبينة سبب ذلك ، بأن الأول كساها من العري ( المادي والمعنوي ) والثاني قضى دينها حتى لا يذلها الدين .. وهي في بيت زوجها ، على الأرجح:
واني فدا لإخوتي الاثنين
واحد كسا عريي واحد قضى الدين
تختار الأغنية ، الفتاة ، لوصف هولاء الثلاثة التي عرفتهم ، برفع مكانتهم ، إلى مراتب عليا ، النجم ( الأب ) الزهرة ( الأم ) ويكون الثالث قمرهم ، ( كتعبير شعري فقط ، فالمعرفة العلمية غير ذلك ). وكأنه يدور حولهما ، يستمده منهما ضيائه:
ريتو ثلاثه و عرفت منهم
النجم والزهره واخي قمرهم
للمطر حضور ، أخاذ بتوظيف صفاته المتعددة في الأغنية ، فهذا المطر الذي يرشرش ( انسكاب متقطع ) على الجبيل ( تصغير جبل ) يجعلها مغبونه ( الغبن حسرة في الصدر وحرقة في القلب ) على من كان ( مليح ) كيف يقع في حبائل الغش :
شن المطر على الجبيل رشرش
غبني على من كان مليح يغتش
النداء ، للمسلمين ، لتنبيهم بأن الماء ينهمر بشكل متواصل ، وتلفت انتباهم إلى رفض شيء مما لم تبح به ، مستدلة بالمنطق ، بالقول ( محد ) لا أحد يهدي جوهرة لمجنون .. وكأنها هي الجوهرة المقصوده:
يا مسلمين والماء شنين مشنون
محد يهدي جوهره لمجنون
مع ضوء الصباح ترتفع الشمس ، (قامة بقامة ) بمعنى على أن ارتفاعها يكون بمقدار (قامة متكررة).
مع هذا الصباح يكون الاستيقاظ ذاتيا لكل شيء في البيت والمحيط القروي ، لكن الأغنية هنا ؛ تأمر هذا المشار إليه ( بالحنش ) رمز العداء ، أن يقم( يترك ) صدر الحمامة كرمز للسلام ( لا تخلو الاغنية من بعد سياسي ):
ضوا الصباح والشمس قامه بقامه
قم وا حنش من صدر ذي الحمامه
بعد منتصف ثمانينيات القرن المنصرم ، ومع التنافس التعاوني ، في شق الطرقات ، وصلت للقرية ( سيارة الجبان ( نسبة إلى بلد للصنع اليابان ) .
تقسم الأغنية بأنها ستركب هذه السيارة ، لتنزل منها الخيبة ، وتركب بداله الفن، فهل المقصود بالفن إنسان ، أم تشغيل المسجل والاستماع إلى الأغاني هو المقصود:
والله القسم لركب سياره جبان
شنزل الخيبه وركب الفن
السيارة الصالون كانت من السيارات المرغوبة في الأرياف ، ولأن صوتها ( حنينها) مميز ، فسيكون بداخلها المحبوب :
صالون جديد تسمعوا حنينه
بداخله المحبوب الله يعينه
يرتفع النداء للقلب أن يحن ( الحنين شدة الشوق ) وللعين أن تجود بالدموع ، فقد شد البعض الرحيل إلى عدن ، وذهب الآخر إلى جيبوتي:
يا قلب حن يا دموع جودي
شدوا عدن وسافروا جبوتي
نسيان العهد من طرف ، يجعل من الآخر ، صوتا غنائيا لتذكيره بالعهد الذي نساه ، وأنه مراعي في مكانه ، نافيا أن يكون قد سار هذا العهد في مركب أو سواعي ( ج. ساعية ) ، والمقصود به الذهاب إلى البعيد من النسيان:
ياللي نسيت العهد انا مراعي
لا ساربه مركب ولا سواعي
الحنين بعد أن يتجاوز القلب ،( الذي ينقبض و ينبسط) إلى الفؤاد بإعتباره ( أكثر توهجا ومدركا لمآلات الحنين) ، فالأغنية بعد هذا كله ، لم تلق مرادها :
حنيت من قلبي ومن فؤادي
ولا لقيت اللى على مرادي
الصبر ، واللامبالة بما يقوله الناس ، هو الشيء الذي تأمر الأغنية التحلي به ، ومن ثمة دعس ( كلام الناس جديد وبالي ) والدعس هنا يكون معنويا بعدم الإلتفات إلى ما يقال ، وتجاوز هذا القول إلى تحقيق المراد:
اصبر يا قلبي ولا تبالي
وادعس كلام الناس جديد وبالي
تنويه :
أورد المؤلف لكتاب ( سلالة قحطان ) محمد سعيد الأصبحي، إذ أن مسمى الشركسي يستخدمه اليمني، إذا أراد التغني بليلاه ، فكل غان جميل وغانية جميلة شركسي … ويذهب الأصبحي إلى أن هذه التسيمة جاءت لصدى الماضي الذي كان فيه اليمنيين يشترون الجواري اللواتي يؤتى بهن من الشركس (وسيتم تناول الأغاني التي أوردها الكاتب عن الشركسي في القراءة القادمة).. جزيل الشكر للأستاذ عبدالخالق الحميدي على هذا الكتاب الثمين.
هوامش :
أعتمدت هذه القراءات ، على إستحضار الذاكرة ، وما يجود به الأصدقاء من محفوظاتهم ، وما كتب في شبكة النت من دراسات ( عبدالله المخلافي – مسك هائل ، عبدالقادر الشيباني ، علي سالم المعبقي ) ، إضافة إلى بعض فيديوهات اليوتيوب .
يتبع …