- كتب: د. عبدالعزيز علوان
الإهداء : إلى مهندس هذه القراءات المهندس عدنان شمسان العريقي
وُجِد الأدب الشعبي عموما ، حيث وجد الإنسان ، بداية بالأساطير التي رافقت حياته البدائية ، مرورا باستقراره الزراعي وبناء مساكن تؤيه بدلا عن الكهوف ، ولا زال مرافقا له في حله وترحاله، من المهد البشري إلى اللحد.
ولذا لا غرابة أن نصف هنا ، الأغنية الشعبية في الريف اليمني ( على لسان امرأة كانت أو على لسان الرجل ) بأنها منتوج قولي ، يعبر عن الحاجة الانسانية التي أرتبطت ، بعناصر الطبيعة الأربعة التي قالت بها الفلسفة القديمة ، ( التراب. – الماء – الهواء – النار ) .
الأرض بخصوبتها وجدبها ، وتغيرات فصولها ، الماء بانسكابه وتدفقه وعذوبة مذاقه ، الهواء بأنسامه و محمولات أشذائه ، النار بلوعتها ، وتلظي أنينها ، وجمر اشتياقها المتوقد في أغوار النفس البشرية.
الأغنية التي حبس أنفاسها النسيان ، و توقفت على إثره قراءتي السابقة، كانت :
جمال يذيع واحمد سعيد يعلق
والطائره فوق بور سعيد تحلق
جزيل الشكر للأستاذ عبدالخالق الحميدي، على صنيعه الرائع لإعادة هذه الأغنية للذاكرة، ولكل من عمل على توجيهها للمجموعات التي نشرت فيها القراءة .
هذه الأغنية ، التي وثقت ( كما يبدو ) العدوان الثلاثي على مصر 56 ، مشيرة إلى خطب الزعيم (جمال عبد الناصر )، وتعليقات المذيع المتميز أنذاك ، (أحمد سعيد) ، فإذا كانت الأغنية الأولى خاطبت راديو لندن ، فهذه ، الأغنية ، تجاوزت الذات اليمنية ، إلى مشاركة الذات العربية، في الصمود أمام تحليق طيران العدو فوق بور سعيد .
وكتداع لأفكار هذه الأغنية ، ثمة مهجل كان عمال البناء في القرى ، يرددونه أثناء عملهم ، متعلق بذات الفكرة الأساسية للقومية العربية الصاعدة أنذاك .
الأول: أرتبط بحكاية سنتاولها فيما بعد، يطلب هذا المهجل الاستماع والتفاعل مع حرب الجزائر ضد المستعمر:
لا شاورنك قلهم زائر
تِسِمعوا اليوم حرب الجزائر
ويا رحيله ويا رحائل
الثاني: فهو المهجل الذي يشير إلى العلاقة، الحلوة بين عبدالله ( السلال ) وعامر ( عبدالحكيم عامر )
تلك العلاقه التي تحولت إلى علاقة مريرة ، أو أنها كانت على سبيل النصيحة الساخرة ، بعدم الذهاب بهذه العلاقة إلى أبعد مما خُطط لها ، لأن الأمور لا تثبت على حال ):
قولوا لعبدالله وعامر
ما حلا يرجع يَمِر
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود الكثير والكثير من الأغاني الشعبية والمهاجل التي رافقت هذه الفترة في اطار البحث عنها (قد تكون للمهاجل دراسة أخرى ) ، الهركلي والشركسي ، كمسميات وافده ، ( دخلت مع ما جلبه الأتراك، من ثقافتهم لثقافتنا ،ووردت في الأغاني الشعبية ) حسب أروى عبده عثمان . وقد شُبهت بهما ، المرأة اليمنية ، قامة وجمالا.
فالشركسي ، المنادى بالغصن ، و المحنا ، ذو طرف كحيل له قامة ذات معنى ، جاء في مطلع لقصيدة مغناة للشاعر محمد سيف كبشي ، غناء المرشدي :
يا شركسي يا غصن يا محنا
طرفك كحيل وقامتك بمعنى
وفي بيت آخر ورد هذا المسمى بـ:
يا شركسي أين البلاد قل لي
من ذي السفال وإلا الجند وقِبلي
وفي بيت ثالث:
يا شركسي ياغصن ياحوري الجنان
حسنك سبى عقلي وزاد جناني
وكلها تدل على إلباس المرأة اليمنية ، الجمال الشركسي ، أما مسمى الهركلي فقد وردت بأكثر أغنية يمنية وهي صفة ملازمة للطول على الأرجح أشهرها ، أغنية للقمندان غناء فيصل علوي:
ما اتركْ الهركلي مولى الضفيرة
بايقع في الهوى شدّه بكيره
العطر في المضارب يكون ، مصون ، برائحته ، ولونه ، ومحدودية استخدامه ، وبسبب المعتقدات التي كانت سائدة في الريف اليمني ، حتى مطلع الثمانينيات ، كان التحذير ، ضروريا بعدم الخروج ، وقت المغرب ، كون هذا الوقت ، في ذاك المعتقد ، هو عودة الجن إلى مخابئهم ، وقد يسيؤن لمن يصادفونه في هذا الوقت :
يا شركسي يا عطر بالمضارب
كم لي انصحك من خرجة المغارب
أشار عبدالله سلام ناجي لهذا الوقت في ملحمة (نشوان والراعية):
وفي ليله كان الجن مشا
إلى وليمه به عشا
قدامهم تمشي دلى
حريوه بنت ملك كبير
ميتها بالسائله رجمه اتت
بشق خطير
وعلى إثر هذه الحادثه أخذ الجن الراعية بدل بنتهم لاقناع الرعية ، (من قبل الشيخ والفقي ) ، من أجل المزيد من استلاب العقل والمال .
الحب ليس إندفاعا ، أو إختيارا عشوائيا ، وإنما يريد ( تِوهام ) ترَوي وعدم العجلة ، عند إختيار الحبيب ، حتى لا يكون هذا الحب مشابها للوجيم ( العجور بعد النصيد ) أو وضعه في ترتيب معين ( وجام ):
حُبيبي الحُب يُشىَ توهام
ما هوش بالهيجة نصيد ووجام
السمرة والمقيل ، من دلائل الحب بعد الزواج :
حُبيبي الحُب له دلائل
الحب له سمرة وله مقايل
النداء ، للمسلمين ، كشهود عيان ، بسؤال السخرية ، عن نفي ( ما فيش ) زواج بدون حب ، وكأن هذا النفي ، احتجاج على تزويج الفتاة ، بدون حب ، وتستدل الأغنية بحجة منطقية بأن القلم لا يكتب بغير مداد:
يا مسلمين ما فيش زواج بلا حُب
مافيش قلم من غير مداد يكتب
الإتريك ، وهو جهاز يستخدم للإضاءه ، باستخدام الجاز ، واضاءته أكثر توهجا من الفانوس ، كان يستخدم في السمر ، وبالذات في رمضان ، به قرص دائري يمكن تحريكه ( التفنيد )، للتخلص من بعض نفايات الجاز التي تسد مجرى الجاز وتقلل من شده الاستضاءة.
وهنا نجد أن الأغنية تشير إلى صافي البدن ؛ ذو البشرة البيضاء المتوهجة، بأنه يشبه هذا الإتريك، الجديد ذو اللون الوردي ، للسمرة معه فقط:
صافي البدن اتريك جديد وردي
شفندك واسمر معك وحدي
العذور ( ج. عذر ) وهو ظل الجبال ، بسبب إنحدار الشمس نحو المغيب ، وبهذا الوقت ، تشن ( تسقط بغزارة ) دموع العاشقين ،كإرتباط شرطي ، مما يجعل الأغنية تترحم على حالهم هذا:
الشمس غابت والعذور دنت
ما ارحم دموع العاشقين لا شنت
يُقدر غياب الشمس بمقدار البنان ،( أبنان ، أبنان ،) وهكذا هي حال من تولع بالمليح ، يجنن ، وكأن الجنان لا يأتي فجأة :
والشمس غابه قدر أبنان أبنان
يامن تولع بالمليح يجنن
لماذا سألت الأغنية الشمس ، بأيوب هل لتذكرها بصبر أيوب ، وتدعوها إلى عدم الاستعجال ، فالقلب لا زال مكروبا .
توجد الكثير من الشواهد لم تحضرني الآن ، التي تسأل بها الأغنية بغير الله ( مع أن القسم بغير الله منهي عنه في الأدبيات الفقهية ):
شمس الغروب واني اسالك بايوب
لا تغربيش عاد القليب مكروب
للمليح ، قيمته من القروش ، زائدة ما يسمى بتوفية القيمة ، أما العَوِج ، إذا لفت ( نظر ) فإن الأغنية تدير ظهرها عنه:
على المليح شاندي قروش ووفي
أما العَوج إذا لفت شقفي
العلب والطلوح ، أشجار شوكية، تستخدم.، ( كسور شوكي ) للبيوت ، من دخول ، الحيوانات ، للحوايا التي كانت تتواجد بجانب البيوت وكحماية لها .
تشير الاغنية إلى كثرة العيون المنبثة حول البيت ، مما يجعل الدخول إلى ( حبيب الروح ) صعبة جدا ، وربما تكون فيها مخاطرة، وكأن الأغنية تخفي تأوها مكبوتا:
قد زربوا بالعلب والطلوحي
من اجي لك يا حبيب روحي
أشار الفضول أيضا ، إلى وضع مثل هذه العيون البشرية بنظراتها الشوكية الحادة ، حول المحبوب .
( محلا هواك لكن حولك أشواك )
كم يحلو منظر الشجر ، والطل فوق أشجار العنب ، وانتشار الهجوه ( المطر الخفيف الذي تحمله الغمام ) وجمع الأحباب في مكان واحد:
محلى الشجر والطل فوق الأعناب
ونشرة الهجوة وجمع الأحباب
البياضي الذي كان حاكما في أغنية سابقة ، تقسم في هذه الأغنية بأنها لن تفارقه ، حتى لو تمت مشارعتها عند ألف قاضي ( حاكم ):
والله القسم ما فارق البياضي
لو شارعوني عند ألف قاضي
النهدة ، تلك الطاقة الصوتية المكبوته في الأعماق الانسانية ، حينما تنفجر ، تشق الجبل طولا، وتحذر هذه الأغنية بأنها ستصير بعد هذا الفتان شهيد ( حُبه ) ومقتول بهذا الحب :
طلعت نُهدة شقه الجبل طول
شاصير على الفتان شهيد ومقتول
الموت عطش ، والمقصود به عدم الارتواء ، حتى ولو كان الماء وسط جرار، والادواح ( آنيه لحفظ الماء ) ، ومقابل ذهاب الروح من الضمأ فإن نظره واحدة من المليح ترد الارواح .
شاموت عطش والماء جرار وأدواح
من المليح نظرة ترد الأرواح
حنين ليل المفارق ، بالليل والنهار ، يشبه حنين البابور في نقيل سمارة:
شَحِن لي بالليل والنهاره
ماحن بابور في نقيل سماره
أستبعد أن تكون هذه الأغنية من ريف تعز ، بل هي للمناطق القريبه من جبل سمارة أقرب.
تنويه :
في القراءة السابقة ، أوردنا أغنية :
يارحمتي للعاشق المفارق
دمعه سيول ونهدته بوارق
و قد استبعدنا أن تكون النهدة باعتبارها ( طاقة صوتية ) مع ايماض البارق ، تؤدي المعنى المطلوب ..
وقد وردت أغنية أخرى باستبدال ، المفارق بالمباعد ، البوارق ، بالرواعد … وهو الأقرب لإستقامة المعنى:
يا رحمتي للعاشق المباعد
دمعه سيول ونهدته رواعد
- عامر هو ( المشير محمد عبد الحكيم عامر أحد رجال ثورة يوليو 1952 في مصر. تولى منصب القائد العام للقوات المسلحة المصرية ووزير الحربية.
- عبدالله هو ( عبدالله السلال، أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية)
يتبع …