- ضياف البراق
قبل انتقال رياح الربيع العربي إلى اليمن كان اليمنيون ممنوعين من التقدم من قِبَل نظام الرئيس الحاكم علي عبدالله صالح، وهذا تحليل المعارضة النزيهة جدًا. فلم نكن متقدمين ولا تقدميين، فإذا بهذه الرياح المباركة تعانق أرواحنا من جميع الجهات، وتصرخ بنا: تقدَّموا تقدَّموا.. فهبّينا متدافعين إلى الشوارع والميادين نستقبل الخير القادم من وراء التخوم، ونهتف بصوت تقدمي واحد أن يسقط نظام المتخلفين، لقد ولى زمن الرجعية، فقسمًا لن نتوقف إلا في آخر الدنيا..
حدث الأمر فجأة، غامت الصورة في لمح البصر، وبدأت حنحنةُ الرياحِ المُباغِتة، فأسرعنا لاهثين وراء الربيع الملتحي من قفاه، أو من أساسه، وانخرطنا في أمواجه السحرية، واحتشدنا بمنتهى الجنون والحماس والزحمة، في أغلب ساحات مدننا الكثيرة، وملأنا الشوارع الواسعة والطويلة بالشعارات البرّاقة والأحلام النسيمية، والكُتَل البشرية المتناقِضة، وانطلقتْ أصواتُ التنظيرات الثورية العبقرية تتصاعد في الأجواء، وكنا نزحف كل يوم على طريق التقدم النوعي حتى نصل إلى قمة الحضيض ثم نعود إلى ساحاتنا الرائعة. واليمنيون معروفون منذُ القِدَم بسرعة الاستجابة للرياح الطوباوية المفاجِئة فقد كنا أول من استجاب لدعوة الإسلام بغير تردُّد ولا مقاومة، وهكذا أصبحنا في أقل من يوم مسلمين مباركَين تحت راية دين الله الجديد، وفاضت قلوبنا بالإيمان والحكمة وسنبقى فيّاضين إلى يوم الحشر. كل الرياح التي تأتينا من خارج الحدود تحمل لنا الخير بين أجنحتها الدافئة. وللأمانة وللتاريخ، كانت رياح ربيعنا العربي هي الأحلى والأغلى، إذ فجّرت في يمننا أنهارًا كثيرة من الحليب والسمن والعسل، وأراحت الشعب كله من مظالم وخيرات ومنجزات المنظومة الرجعية التي حكمتنا طيلة ٣٣ عامًا. ولولا ربيعنا التقدمي السريع، كنا بقينا إلى يومنا هذا متخلِّفين، فلا حركة لنا ولا سعادة ولا دولة مدنية ولا صوت في المجال الدولي. قبل رياح الربيع كان هذا الوطن خريفًا ثُمَّ سرعان ما انقلب إلى فردوس من ركام ومسامير وألغام. الرياح لا تجلب الدمار والغبار ولا تزعزع سكينة أحد ولكنها تنقل النيران من المواقد الخاصة إلى الساحات العامة، أو تحمل الفتنة من وراء الأبواب إلى الشوارع، وتُوزِّع حلويات الاستقرار على جميع المواطنين غير المستقرين. فبعد أن كنا متخلفين في الأمام، صرنا متقدمين في الخلف، وبعد أن كنا مستقرين في البيوت والشوارع، صرنا مستقرين بلا بيوت ولا شوارع، وبعد أن كنا مجانين أصبحنا فنانين ومطربين، وكنا نعاني من الوحدة الوطنية فأصبحنا لا نعاني إلّا من الانفصالات والانقسامات والانتحارات، وكنا ننام على حصير فأصبحنا ننام على عصير، وكنا جائعين قليلًا فأصبحنا هياكلَ عظمية، وذلك بفضل الريجيم الثوري الذي لم يستثنِ أحدًا من أبناء الشعب، والحمد لله صار كل واحد منا يتعوذ من الآخَر، والحياة التي كانت تغمر الصدور صارت تغمر القبور..
قبل رياح الربيع العربي كنا مستقرين ولكن لا نتقدم، وبعدها أصبحنا نتقدم ولكن لا نستقر، وكنا نمشي على أقدامنا فأصبحنا نجري على رؤوسنا، فنشكر الرياحَ الربيعية التي زودتنا بوسائل التقدمية الدموية، وقسمت كل مواطن إلى نصفين، تطبيقًا لمبدأ الإنصاف الثوري، فإذا ضاع نصفك في الشمال، فابحث عن نصفك الثاني في الجنوب، والعكس صحيح، ونصفك المنتمي للشرعية يتقاتل مع نصفك المنتمي للحوثيين، ونصفك الذي يكره الإمارات يكرهه نصفك الذي يحب قطر، والسعودية إذا لم تأخذ النصفين تقتلهما، وكذلك مرتبك الشهري اِنقسمَ إلى نصفين، نصف لدنياك ونصف لآخرتك، وتحولنا جميعًا إلى أنصاف، أنصاف في كل شيء، والأنصاف لا يُكمِلها شيء غير الموت!
