- ضياف البراق
ذابتِ الشمعةُ، تكدّس ظلامُ التاريخ كله فوق صدري، هاجمتني رياحٌ باردة من شقوق الغرفة، اختلطت مشاعري بالأوهام، وازدادَ التعبُ، اضطربَ مزاجي، تدفَّقتِ الفوضى الخارجيةُ إلى أعماقي الساكنة، لكنّي لم أهرب، بقيتُ صامدًا حيث أنا الآن، في زاويتي المُقدَّسة، واتفقتُ مع نفسي على أنّ الفلسفةَ أجملُ طريقٍ إلى الضفة الأخرى. لا علاقة للفلسفة بالسراويل القصيرة، وقشور الحياة اليومية، ومرطّبات البشرة، والعطور الباريسية، والنهود المُتوهِّجة، وتلك التفاصيل العادية التي صارت تثير أعصابي لفرْطِ تكرارها. كل يوم تفوتني قهوة الصباح، وأغنيات فيروز، والفُرَص الرائعة. يفوتني الفرح أيضًا، ويزورني وجعُ الطفولة المُرّة. أنام لساعات طويلة، وأستيقظ بعد الظهيرة، وأنفق بقية يومي على السهر والكتابة والقراءة والقلَق. ولا داعي هنا لأن أُحدّثكم عن أخطائي الفادحة مع النساء الجميلات، ولا عن السجون الخفية التي ابتلعت الكثيرَ من عمري، ولا عن أصدقائي الأبرياء الذين ماتوا مخنوقين بأحلامهم الفاشلة. المجانين تستبِدُّ بهم أحلامُهم التي لا متسعَ لها على أرض الواقع. تُدهِشني الحياةُ التي تنبت في الثقوب الصغيرة، تُرعِبني الوردة التي تتغلغل في جراحي، ولا تطربني، يُقلِقُني هذا الباب المفتوح دون فائدة، وتهزمني هذه النافذةُ التي تطل على أشلاء الوطن المذبوح. والحقيقة أنني لم أعد أكترث لوطني، إنه مجرد ضجة بائسة تُكرِّر نفْسَها باستمرار، لَمْ أيأسْ منه لكن ليس عليَّ أن أسجدَ لقاتلي، كما أنه من حقي أن أكره ما يعذّبني بشكلٍ متواصِل. أنا سعيد أخيرًا، أشعر بالأمل وقد أصبح الوطن الذي نحلم به أبشع بكثير من هذا الذي نكتوي بنيرانه كلَّ يوم.
الشمعة الثانية ذابت على إيقاعي السريع، والظلام الضارب في قلبي لم يذُبْ، والكلب يعوي باكيًا في زقاق الحارة الفقيرة، تحت سحابة الظلام، والشجرة المُتعَبة على الرصيف، هناك، تنتظر حطّابًا شفيقًا يضاجعها، ويُرِيحها من لعبة الشموخ الكاذب. عندما يتأزم وضعك هكذا، ليس عليك سوى لزوم الصمت، لا تُثرثِرْ، ولا تنفعِلْ، دع الأمر لوقت آخر. لا تنسَ أنّ التفاهةَ علاجُ المسائل المُعقَّدة. من الجيّد أن تتعلم الحكمة من حذائك إن وُجِد. أنا يُبهِجني الصمتُ، ويُضجِرني التفكيرُ، وتُتْعِسُني أحلامي، رغمَ بساطتها، ويقتلني كلامي الجريء. إياك والطموح الزائد. واهًا! نسيتُ أن أستعين بالدَّامابادا! راقِصْني يا سيّد بوذا، خذني إلى شمعتك الأبدية، أرهقني عدمُ الوصول. إنني هذه الأيام أكتب وأحذف ما أكتبه. أمشي وأنسى أن أكلّم نفسي. أسهر في الغرفة وأنام في الحمّام وأبول في الشارع. أجمع ملابسي إلى مكان الغسيل، وأتركها كما هي. الذي يسألني في الشارع عن اسمي أقول له لا تسب الحكومة. جاءني صاحب البقالة يطالبني بِسَدَاد الدَّين الذي له في ذمتي، فقرأتُ له سورة القيامة ثلات مرات، فتركني مذعورًا. وإذا جاءني غدًا سأقرأ له فصلًا من رواية “الغثيان” للمرحوم العزيز عمّي سارتر. الناس طيّبون ولكن المقابر لا تعرف هذه الحقيقة. إنهم طيّبون، ومشكلتهم هي سوء الفَهْم والتفاهم. الموت لا يتفلسف، إنه صارِمٌ دومًا، يزحف علينا كالأعمى، ومع ذلك يبقى هو الجنون الرائع. كنتُ وأنا صغير نابغة في إثارة المشاكل الموسيقية بين أمي وأبي. في المدرسة، كنتُ أموت جوعًا، وأتظاهر بالمثالية الجذّابة. كنت ذكيًا جدًا، نظيفًا وأنيقًا عدا حذائي كان يفضحني أكثرَ الأيام. الغياب عن المدرسة حين يبدأ الحذاء بالتمزُّق هو الحل الوحيد، ثِقْ به، حتى يرزقك الله بالبديل. أنا واثق من نفسي عندما أكون في مواجهة الآخرين، أو بينهم، وتبقى معضلتي الدائمة أنني لا أجيد التمثيل، ولا أستطيع اللف والدوران، ولا التكرار والمرح مثلهم. أخالطهم بنقاء، وأكلمهم من قلبي، وأعانقهم بروحِ قدّيسٍ عظيم، فأحصد منهم أصفارًا، أو أشواكًا، أو لعناتٍ لذيذة. سوء التمييز بين الألوان مشكلةٌ أخرى أعاني منها. لا أحفظ أشهُر السنة الميلادية بالترتيب. أمّا أشهُر السنة الهجرية فهذه صعبة أكثر. في حياتي كلها لم أنم على سرير سوى مرّاتٍ قليلة في الفنادق الحقيرة أي الرخيصة. حالي سيرعبك إذا رأيتني آكُل بالملعقة. طولي ١٧٥ سم، بالتمام، وزني ٥٥ كيلو، وقابل للنقصان الفادح. ليست رشاقة بل مجاعة، قال صديقي. تعرفني كل مطاعم العصيد المفتوحة على أرض الجمهورية اليمنية. لا ينطبق حاليًا مصطلح الجمهورية على البلاد، ولا يجوز ذلك. فقط مرّة واحدة سبحتُ في بحر، كانت في عَدَن، وأوشكتُ أختفي فيها إلى الأبد، فلَمْ أكرّرها قط. كنتُ أُصدِّق كل ما أشاهده في أفلام جيمس بوند. لا يكفيني طن من القات في اليوم الواحد. أدخِّنُ مثل قطارٍ قديم. أحب نفسي وأعاملها كذبابة. وما زلتُ أسامح الجميعَ، وأتجرّع من كل التناقضات، وأقيم وزنًا حتى للحشرات التي لا تخلو منها حياتي.
الشمعة الأخيرة ذابت، والليل اشتدَّ على عنقي، والعواصف هبّت على وجهي من جهة الفلسفة. دماغي يرتَجُّ، وقلبي يَصفِر داخلي مثل كُرةٍ منفوخة ثُقِبَتْ حالًا. الموقف ليس صعبًا، ولكنه يتطلّب مزيدًا من القات والسجائر والصمت. ليكن الأمر كيفما يشاء، فلن أخسر أي شيء هذه المرة، لا يقلَقْ أحدكم عليَّ، فأنا خراب، وأحب التشرُّدَ وحدي داخل نفسي، والموتَ في الممرّات الضيّقة، والنومَ بلا سرير.. أنا ابن هذا القاع البارد والحزين، ابنُ الغبارِ الذي لا يدرك قيمته المُتْرَفون. ولا يعني ذلك أنني أمتدح البساطة، أو أحبها، ولا يعني أنني أقصد تلميع بشاعتي، ولا يعني أنني أبحث عن معنىً لوجودي.. لا، أنا أُحِبُّ البحرَ مهتاجًا، والسفينةَ حُطَامًا، والوجودَ سَرابًا، والكتابةَ انقلابًا شاملًا على هذه الحياة التالفة. أُحِبُّ الحبَّ والاسترخاء والصدقَ والذوبانَ مع الشموع. وأحب فقدانَ الوعي، والنسيانَ، وغموضَ الطريق، والسفرَ الطويلَ بين الغيوم الكثيفة. وأنت يا قلبي المفطور، ثِقْ بالوردة التي لا تعرفك، بالوردةِ التي لا تشبهك، ثِقْ بالوردة التي تشبه الهاوية. كنتُ، وسأمشي غريبًا، وأنا أهذي، وأُغنّي، ولن أكُفَّ أبدًا عن العشق والفلسفة والأمل.