- ضياف البراق
لا أدري كيف اختفيت يا يونس، ومتى بالضبط، ولا أعلم ما حالك الآن أو كيف روحك.. إنني لشدة حيرتي وحزني، عاجزٌ حتى عن الكتابة، فجراحك كثيرة، ودموعك لا تُجفِّفها كلماتي المحدودة.. وماذا أكتب إليك وماذا أقول فيك أو عنك.. أيُّ ثُقْبٍ ابتلعكَ فجأةً.. أأنت في زنزانة.. أم في حفرةٍ مخفية عن الأنظار.. أم في زاوية لا يعرفها ضوءُ الشمس.. في أي قبو تتألّم بمفردك.. ومن الذي أخفاك في المجهول.. وكيف سيكون حالك هذه المرة، وحال أهلك البسيطين.. يا صديقي المُتعَب من كل شيء، أين أنت، وأي كابوس يجثو على صدرك الهشّ..
إنّ غيابك غير الطبيعي يُوقِظُ في أعماقي ذكرياتِ تلك الأيام الحلوة والمُرّة والنقاشات الأدبية الساخنة والضحكات الساخرة من تفاهة حياتنا، فيمتدُّ وجعي إلى أقصى وجعك.. آه يا صاحبي المسكون بضوء الشموع وحنين الفقراء وعذوبة الشِّعْر وتوتُّر الفلسفة وآهات الوطن وسِحْر المستقبل.. آه إنها آلامك الجديدة تغوص عميقًا في نبضي المتدفق نحوك، والأسئلة عنك ترهقني أكثر، ورياح القلَقِ تأتي بمزيدٍ من الغبار..
يا يونس، إنّي أشتاقك لتحدّثني عن إعجابك الشديد بصمويل بيكيت، وتحدثني بعمق عن إميل سيوران، وألبير كامو، وقبل أولئك تحدثني عن شوبنهاور، ونيتشه، وتضحك معي أو تبكي وأنا أسرد لك قصصًا صادقة من كتاب حُبي الفاشل، ويحتدم النقاش من جهتك في موضوع آخر، وتلعنني مرة وألعنك مرّتين، ويكون جنون تشارلز بوكوفسكي حاضرًا بيننا، أو جاريًا معنا، أو صاخبًا فينا، وفجأة أقف أنا مع الأمل ضد يأسك، ثائرًا عليك بحماس، فيصيبك هذا بالضجر، ثم أنقلب سريعًا إلى جانبك ضد الأمل، فتبتسم لي من قلبك الأبيض، وتواصل كلامك اللذيذ عن شاعرنا الكفاحي الكبير أمل دنقل، بينما دخان سيجارتي الرخيصة مُستمِرٌّ في إزعاجك، وهكذا نقاوم المآسي المحيطة بنا، ويتكرر هذا الضجيج الرائع في جميع لقاءاتنا المُتقطِّعة..
يونس، يا أخي وجرحي العزيز، ما أمرَّ الشوارع خاليةً منك، وما أضْيَقَ الوقت الذي لا نرى فيه وجهك، ولكنّي لمْ أعُدْ أجدك في الفيسبوك منذ عدة أيام، ولا أراك متصلًا على الواتساب، ولا أسمع أنّات خطواتك وأنت تمشي تائهًا في الشوارع وتحمل على ظهرك جبالًا من المتاعب.. فماذا حدث لك.. أين ذهبتَ.. وهل أنت الآخر تتساءل مثلنا هكذا.. وتبحث عن الأجوبة في المتاهات الغائمة..
ما أنقاك يا صاحبي، وما أجملَ روحك التي لا تحمل شيئًا غير المحبة.. فليتهم يعرفون أنك من أطيب الطيّبين، وأبسط الناس.. فلا وراءك سلطة لتحميك، ولا لديك من الأمل ما يساعدك على احتمال عذابك الداخلي.. أنا مجروح بغيابك، مخنوق بما يفطر القلب، أسأل عنك ولكنّي أشعر بالعجز عن إيجادك، لا أقوى على احتمال فقدك ولا على احتمال قلقي عليك..
من أين أبدأ بحثي عنك..
كيف أصل إليك..
من أي اتجاه يمكنني الوصول.. لقد سألنا عنك.. فقالوا إنك غير موجود.. وكرّرنا التساؤلات إلّا أننا لم نحصل على علامات تشير إلى مكانك.. نحن لا نتهم أحدًا.. ولكنّك اختفيت في صنعاء، وهذه المدينة لن تقسو عليك بل نرجوها ألاّ تقذف بك إلى وراء الذاكرة.. ضوؤك يا صديقي لن ينطفئ، ونبضك سوف يعيش طويلًا.. قد تقول إنني بهذا الهُراء أشغل نفسي عنك لكن الحقيقة أنني لا أحتمل مزيدًا من الأوجاع، ولا عندي ذرة من جبن لكي أتخلى عنك، أو أنساك..
كلنا تعابى، ليس لنا وطن يا صاحبي، ولكن ما زال لدينا القليل من الأمل والكثير من اليأس.. وأمّا الله فهو معنا بالتأكيد، لن نضيع طويلًا، ومراراتنا هذه إنما هي اختبارات لاستحقاق الحياة، وعلينا أن نكون في مستواها لكي ننتصرَ لأنفسنا ونحظى ذات يوم بالسعادة والاستقرار والسلام..
يا صديقي المخفي، يا ابنَ المرارات والانتظارات والمبادئ الرائعة، إلى متى هذا الضياع الوحشيّ، لقد أتعبني الركض في الشوارع فهل تسمع أصوات أنيني، هل تعرف في أي مكان أنت.. هل سأجدك، هل سنجدك اليوم، أننتظرك إلى الغد، ماذا بعد.. لا أدري.. ولكن لا تستلم لليأس، أرجوك تشبَّثْ بالأمل، كن صبورًا حيث أنت، فنحن في زمن غريب، وفي طرقات مسدودة، ونغرق بركام أحلامنا الجميلة، إننا أمام المعاني والأشياء التي قد انتهت.. فهل تُداوينا القراءةُ من آلامنا.. وهل في الكتابة مخرج لنا من هذا العدم الكبير الذي يُسمّى الوطن.. آه لكَمْ يعذّبني اختفاؤك، أشعر بمرارة كبيرة تفترسني كاملًا، يكبر حزني مع حزنك، ويشتدُّ يأسي أيضًا، وتنتحِبُ كلماتي، روحي طافحة بوجعك، لا الدمع يجِفُّ، ولا الظلام ينجلي، ولا شعاع الفجر يطلع علينا..
أنت لا تؤذي أحدًا، يدك نظيفة، وضميرك طاهر، وأحلامك بسيطة، ونحن نحبك لأنك على هذه الدرجة من الجمال الإنساني.. سنواصل البحث عنك يا يونس، لن نيأس، فسوف نجِدُكَ لا محالة، لن نخذلك، فأنت أيها الغالي لا تستحق التعب والضياع، ولا نستطيع أن نتركك وحدك تواجه قدرك الأليم.. لدينا أمل رغم كل شيء، فكن بخير يا حبيب القلب.