- كتب: علي المقري
ساهم الفنان السعودي الكبير محمد عبده في انتشار الأغنية اليمنية على نطاق واسع خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وذلك من خلال التوزيع الموسيقي الحديث للأغاني وبثها عبر قنوات إعلامية شهيرة. وأدى صلته الحميمة بالفنانين اليمنيين إلى اكتساب خبرة بتاريخ وتنوع هذه الأغنية في مختلف مستوياتها.
مع هذا، بدا الفنان محمد عبده مقيداً بالشروط الاجتماعية الدينية التي عاش ويعيش فيها فأعطى لنفسه الحق في القيام بتحريف بعض كلمات الأغاني اليمنية التي لا تناسب واقعه المحافظ خصيصا مع ازدياد ما سمي بالصحوة الإسلامية في السعودية، وقد اتبعه في ذلك الكثير من الفنانين وأبرزهم أبوبكر سالم بلفقيه في تعامله مع الأغاني الصنعانية.
سوف أكتفي هنا، لمناسبة يوم الأغنية اليمنية، بالإشارة إلى ما قام به في أغنية (سرى الليل)، وهي تنسب لعدد من الشعراء أولهم الشاعر عوض عبدالله بن سبيتي المولود في الديس الشرقية بحضرموت عام 1880م.
وما سنجده أن الفنان محمد عبده قد قام بحذف أو تعديل العبارات والكلمات التي وضعتها هنا بين قوسين، مع ملاحظة أن الشاعر كان ينطلق من موقع إيماني، وهو ما نجده في قوله: (أستغفر الله لا يكتب علينا خطيئة).
سرى الليل
سرى الَّليل وانايم على البحر ماشي فايدة في منامِ الَّليلة حل السَّرية
سرى الَّليل وارامي شباك الهوى والبحر كلَّه نوى وإنتَ حياتك شجية
(ملكتَ السماء والأرض ما هي لحد واستغفر الله لا يكتب علينا خطيئة)
سرينا وشرَّعنا غوابيرنا والعشق ما هو لنا لأهل القلوب السلية
سرى الَّليل وامولد الذهب والرِّشوش لا شدَّوا الخيل يشد المُهرة العولقية
أنا (اسمي) محمد ما (أمتلكش) لحد إلاَّ المقادير جابتني لأبوكم هدية
سماها وكرسيها لخلاّقها و(الأرض لك ملكها) والنَّاس (عندك) رعيّة
يا ابن النَّاس حبيتك وحبيت أنا .. يا ليتني ملك لك وإلا تصير ملك ليه
نظرني من الطَّاقه وحرق لي الكبد .. وإنتَ الدواء لِلكبد يا أبو الخدود الندية
أنا يا حبيب مظلوم وإنتَ السَّبب .. أهو ليه ياصاحبي دايم تِنكد علَّيه
ونلاحظ لدى السماع أن محمد عبده قام بحذف هذا البيت:
(ملكتَ السماء والأرض ما هي لحد واستغفر الله لا يكتب علينا خطيئة)
وحوّل قوله (سماها وكرسيها لخلاّقها والأرض لك ملكها) إلى (والأرض له ملكها)… إلخ
وهناك الكثير من الفنانين قاموا بأداء الأغنية إلا أنهم لم يقوموا بتغير أو حذف بعض الأبيات منها وإن حصل فإن ذلك لم يمس بجوهر الأغنية كما هو لدى طلاح مداح وفيصل علوي وشروق وغيرهم.
هنا رابطان لإداء الأغنية الأوّل بصوت محمد عبده والثاني بصوت الفنان فيصل علوي وهو قريب إلى الأصل، ويمكنكم البحث في اليوتوب لسماعها من فنانين يمنيين آخرين، سواء قبل التحريف أو بعده.
يذكر أن اليمنيين ابتكروا عيداً للأغنية (الأوّل من يوليو) مقاومة لحملات التحريم الدينية ضد الغِناء والفن والتي تقودها مليشية الحوثيين وعبدالله العديني وأتباعه؛
وهي مناسبة للتذكير بالانحرافات الأولى لتشويه الأغنية اليمنية المفعمة بالحرّية.
وسأشير هنا أيضاً إلى ما قام به فنانون يمنيون من تحريف أو تجاوز لبعض أبيات الأغاني الشهيرة بسبب جرأتها أو خضوعاً لثقافة المستمعين التي صار يهيمن عليها الخطاب الإسلامي المتشدد والرافض لأجواء الفن المتمرد.
كانت أم كلثوم تقوم باختيار أبيات محددة من القصائد التي تقدم إليها، أو تختارها، من أجل التلحين والغناء وأشهرها قصائد أحمد شوقي التي انتقت بعض أبياتها للغناء مثل سلوا قلبي، سلوا كؤوس الطلاء ووُلد الهدى، وذلك من خلال معايير فنية تستهدف تكثيف الشعر والمعنى.
إلاّ أن الأمر مختلف، في حال الفنانين اليمنيين، إذ نجد أنهم يتعاملون مع أغنيات صارت ملحنة وشهيرة ولهذا فإن أي اجتزاء أو تحريف لكلماتها يعبر عن رؤية الفنان ومفهومه للفن.
سأورد هنا مثالين على التعامل مع أغنيتين للشاعر القاضي عبد الرحمن بن يحي الانسي (1754 – 1835 م)، الأغنية الأولى هي (أحبة ربى صنعاء) والتي غناها الكثير من الفنانين، حيث تعامل معظمهم مع أبياتها الأخيرة بنوع من الحذر وأشهرهم الفنان أبوبكر سالم بلفقيه الذي اكتفي بالوصول إلى البيت القائل:
“وقصدِه برشفة من معتّق زلالكم
فجودوا وقولوا له إذا قد شرب يهنا”
فيما لم يغن أبيات سبق وأن غناها كثيرون، تقول:
“وفكّوا له الأزرار وحلوا دلالكم
وخلّوه يلمس جنّة الخلد باليمنى
ويقبض زكاة الحب من عين مالكم
فمن يلمس النهدين قد فاز واستغنى”
وهي أبيات غنى معظمها بتلاعب فني الفنان محمد حمود الحارثي، كما غناها كاملة الفنان فؤاد الكبسي وقبلهما وبعدهما الكثيرون.
وهناك أغنية ” لله مــا يـحــويه هـذا المقـــــــام” للشاعر نفسه، والتي رأينا أن بعض الفنانين صاروا يتجاوزون بعض أبياتها خضوعاً لموجة الذوق المحافظ الذي صار مكرسا في الحياة الاجتماعية، وبالذات تلك الأبيات التي تقول:
“فـفـض عـن دن السـلاف اللثـــام
وأسـقـني خـامس وسـادس
مـا يشــرح الارواح غيـر المُـدام
فلا تكـن للكـاس حــــابس”
ونجدها كاملة بصوتي محمد مرشد ناجي والحارثي وغيرهما من الفنانين المتميزين.