- ضِيَاف البَرَّاق
ماذا أكتب عن الموت؟ وكيف نتخلص من هذا الكابوس الحقيقي الذي يتغلغل فينا دومًا؟ هل نحن غير قادرين على إيقاف زحف الموت على حياتنا؟ أكيد لسنا بقادرين. بل نحن لا نستطيع حتى أن نتحرر من عُقَدنا النفسية، وأوهامنا العقلية، فكيف بنا أن نتحرر مما هو أخطر؟ الأمر مستحيل. سنظل خبزًا شهيًا للموت، صيدًا سهلًا في متناوله، هدفًا واضحًا له يلتهمه متى يشاء. أُكرِّر هذا التساؤل دومًا: ماذا أكتب عن الموت؟ وما الجديد الذي سأقوله عنه؟ وهل بالكتابة أستطيع النجاة منه، أو الفرار إلى مكان لا يبلغه؟ أضحك من نفسي إذ أجدني عاجِزًا تمامًا عن الخروج من هكذا مأزقٍ لعين جدًا! طموحي الأكبر، أن أجِدَ أنجعَ وسيلةٍ لإسكات صوت الموت نهائيًا. هذا هراء. عنّي، خوفي من الموت ليس كبيرًا، بل إنني لا أكترث به في أكثر الأوقات. لكن، أنا يعذبني موت الأصدقاء، الأحبّاء، الأقرباء، موت أي إنسان طيّب، موت أي شيء جميل. الأنبياء ماتوا. الشعراء العظام يموتون. والفلاسفة أيضًا. كل شيء مائت، لا محالة. الجميع سينزلق إلى تلك العتمة السحيقة جدًا. يطحن الحزنُ قلبي عندما أرى أطفالًا يموتون. لماذا تموت العصافير أيضًا؟ لماذا حتى الأزهار الجميلة لا تعيش إلا لحظات قصار؟ والفنانون لِمَ يرحلون قبل أن يُكمِلوا ما بدؤوا به؟ لقد فشلَ جنونُ جلجامش إزاء فكرة الخلود، تلاشى حلمه في البقاء حيًا إلى الأبد. أنا ضد هذا الجنون. لستُ أكره الحياة بتاتًا، لكنني لا أحبها بجنون، أعيشها دون أن أعبدها، لا أعتبرها كل شيء. الحقيقة، ينْرعِبُ عقلي من فكرة أن أعيش هنا إلى الأبد، أن لا أموت جسديًا، أن أظل أتنفّس عبثًا هكذا، وأتكلم هكذا بغباء إلى زمنٍ طويل. غير أنني أنخنِقُ بحزني على الذين يموتون وهم يبحثون عن الحياة السعيدة، أولئك الذين يهربون من وجه الموت إلى داخله. إلى أين كان عليهم أن يهربوا؟ لي هنا قهقهةٌ كبيرة. آه، لكَمْ يجعلنا الموت تعساء ومجانين تُجاه أنفسنا والأشياء في آنٍ!
أنا كل يوم أغرق في الشوارع، وأبقى كذلك إلى حين. أغلب الناس الذين أقابلهم في هذه الشوارع لا يعرفون لماذا يعيشون، ولا يعيشون بأسلوب، وليس عندهم ما يقولون، لا أرى حتى وجوههم، أسمع أصوات آلامهم فقط، إن حالتهم هذه تشبه تمامًا حالةَ الغبار السابح في الريح، إنهم ضائعون ولكنْ لا يعلمون، إنهم بلا أرواح، وهذا ليس ببعيد عن الحق. حقيقتهم أنهم غير جادّين في أي شيء، وليس بمقدورهم أن يغيّروا شيئًا من ذلك. لا تنفضوا الغبار عنهم، فوجودهم غبارٌ أصلًا. أنا لا أُسِيءُ لسمعتك أيها الغبار، حاشا، فأنت هدفي الوحيد في الحياة، لكنما أدافع عنك، أخاف عليك من السيل والريح. والفلسفة يا عالَم لا تنفع مع هؤلاء الضائعين، ولا هم بحاجة إلى تنظيرات المثقفين، وشعارات الثائرين، وعضلات المصارعين، وعجلات الحداثة. دعوهم وشأنهم، ليس من طريق ولا من طريقة، ليس من أي حل لمشكلتهم الغريبة المستعصية المُزمِنة في أعماقهم. وإنني أشعر وأنا أغوص بينهم، أصدقكم القول فأقول: إنني أشعر بسعادة الكون تخنقني، ما أسعدَني بينهم، فلا أموت ولا أحيا، وهذا لعمري أمتع ألوان العيش، وأعظم معاني النجاح. امتلاؤنا بكل هذا الفراغ الهائل، هو دليلٌ قاطعِ على أن المستقبل سيضعنا جميعًا داخل سروال قصير ويرمي بنا إلى أبعد هاوية، وحينئذٍ سيصمت الجميع وكلٌّ منا سينشغل بنفسه فقط، وهناك لا مشاكل ولا حلول، ولا أمامنا سوى أن نصمتَ وننظرَ إلى تحتنا، إلى وجه الغبار فحسب.
أنا المستميت دومًا في وجه الموت، وقد كنتُ هكذا منذ بزوغ طفولتي. وها أنا أكتب عن الموت لعلّي، كما أتوهَّم، أبعده عنّي قليلًا. هل أنا حقًا أخاف أن أموت؟ وهل أنا أقوى من قدرته غير المحدودة؟ هراء أن أسأل هكذا! ثم إنني غير محتاج إلى مَن ينقذني من هذا القدر المحتوم؛ فلا أحد مِنّا يستطيع الفرار! ومنتهى العبث هو أن نحاول ذلك. هذه الحياة ليست لنا، هي مجرد عطية مؤقّتة، جاءتنا هكذا، وزوالها أمر لا بد منه. وقد يسألني أحدكم: لماذا أنت اليومَ تثير هذا الموضوع العويص؟ والجواب: أجيبوني أنتم لماذا؟ أنا مثلكم أريد أن أعرف. ولا أستطيع أبدًا إيجاد معنىً للموت، بل هذا ليس من حقي. مَن مِن جميعنا بوسعه الفرار الكامل من هجوم الموت؟ لستم أمامه سوى لا شيء. عيشوا ما استطعتم من الحياة، ولا تنسوا أنكم لن تنتصروا على شيء، فإن الموت ينتظركم بجدية وإخلاص، ولن يستثني من الكل أحدًا؛ فهو لا يُجامِل، ولا يرتشي، لا يميل ولا يلين، لا ييأس ولا ينام، لا يُؤجِّل عمل اليوم إلى الغد، لا يضحك ولا يحب المزاح، الموت لا يصيبه النسيان، الموت يكبر ولا ينتهي، صرامة الموت لا تتناقص. يمكننا مع ذلك أن نتعلم من الموت فن الحياة. الموت يهدينا إلى معنى الحياة. وهل لها معنى؟ الموت هو الجواب الوحيد. الموت هو الكلمة الفريدة التي تحتمل جميع المعاني، وتقذف بنا إلى كل الصوَر. هذا شيءٌ قليلٌ من جمال الموت الكثير. افرحوا به.
في لحظات منتشية من حياتنا، نقف للموت بالتحدي والرفض، نتقوّى عليه، ولو في الأحلام، نكابر في وجهه الغادِر، ثم نموت ما إن تنتهي تلك اللحظات المنتشية. هكذا، نلجأ إلى إبراز هذا النوع من العناد المجنون، إلى إظهار هذا الانتفاش النفسي المُكابِر، إلى التشبُّث بالوهم البطولي، إلى العنترة الاستعراضية الفارغة، ولا نحصد إلّا الهزيمة، نتقدم إلى الحياة بكل حماس، فنجدنا فجأةً مكسورين وراءها، ونحن، طبعًا، نجهل حقيقةَ أن ما نفعله ليس عملًا حقيقيًا، ومهما يكن فإنه لن ينفعنا على أي حال، ومع ذلك نستمرُّ في تكرار هذا الفشل، ولا نستحي أمام الفشل! فنحن عادةً ما نقول: فلان نجا من الموت! وفلان قاوم الموت وانتصر عليه. ونقول إن ذلك البطل من الناس تصدّى للموت حتى هزمه. ونصرخ بأن الموت لن يكسرنا أبدًا! وما هذه إلّا عبارات فارغة، وأوهام لا معنى لها، لكنها تُخفِّفُ من عذابنا النفْسِي، كالمُخدِّر المؤقَّت. فالحقيقة أن الموت عندما يأتي بجدية أو في موعده، فلا نقدر على ردعه ولا بوسعنا تأجيله إلى وقت آخر، إنه حين يُقرِّر قرارَه النهائي، لا يتراجع عنه بل يهجم ويتطاول ويستمر، هكذا إلى أن يُحقِّقَ هدفه بأكمله، يا سلام! لِمَ نموت؟ لأنه لا بُدَّ أن نكون بخير. وسنكون بالتأكيد.