- نبيل الشرعبي
في بلدتي الريفية وعلى هامش زيارتي لها في عيد الفطر المبارك، وبتوقيت الزمان 3 شوال 1442هـ، خلوت بروحي تحت ظل القمر أتذكر: صباحات طفولتي، إذ كنت أصحو باكرا، وأغسل وجهي وأحمل بين يدي الصغيرتين قنينة زجاجية، وأتجه نحو منزل جدي علي حمود. أدخل باب المنزل واتجاوز الدور الأرضي بحذرِِ حتى لا أتعرض لركلة من الثور الشرس الذي كان يفزعني كثيرا.
ما أن أثق بإطباق يدي على الجدار أبدأ بصعود “الدرج” التي لا يصل إليها الضوء إلا فيما يشبه خطوط صغيرة تتسلل من “الشماسة” وهي فتحة وسط السطح تسمح بدخول الضوء. أُؤنس نفسي بالعد بصمت واحد، إثنين، إلى أن أصل إلى ثلاثة عشر، وأصل إلى باحة صغيرة فيها ثلاثة أبواب، الباب الذي يتوسطها ينبعث منه رائحة زكية مزيج من روائح زهور الريحان والعطور. استنشق تلك الروائح التي ما زلت أحتفظ بها حتى اللحظة.
مزيج أصوات تطربني، صوت ارتجاج الحليب في “الُدبية” أي الوعاء المخصص لتحويل الحليب إلى حقين وهو من ثمر اليقطين، وصوت ثانٍ يصعد من مذياع
داخل الغرفة ذاتها أبرز ما يتنامي إلى سمعي منه صوت المُقرىء عبدالباسط عبدالصمد لروحه السلام، والثالث صوت أنثى رخيم وشجي وهو صوت جدتي مريم سعيد فرحان_ لروحها السلام والخلود، تطلب مني الدخول لمساعدتها في هز وعاء الحليب. أجلس بجوارها وكُلي بهجة بهذا الطلب الذي يعد تكريم لطفل مثلي. أقترب منها أضع يدي الصغيرتين على الحبل الذي يلف الوعاء وأبدأ تحريك الإناء، فتغادر جدتي الغرفة التي ليس فيها سوى نافذة صغيرة، ثم تعود تحمل معها فطيرة ذرة خرجت للتو من” المافي”التنور والبسباس سحاوق له مذاق لذيذ وحار، وآنية نحاسية صغيرة. تطلب مني التوقف وتقترب من وعاء الحليب، تفتحه وتقرب أنفها وكثير ما يكون قد تحول الحليب إلى حقين فتصب في الإناء النحاسي، وتمده لي مع فطيرة الذرة والسحاوق. أتناول ما أعطتني ثم أحمل وعائي المملوء بالحقين وأغادر. آه يا جدتي مريم_ رحمكٍ الله، عدت هذا العام وأنا على عتبات عامي الأربعين، ولم أجد الثور الذي كان يفزغني ولم أصعد “الدرج” ولم تروٍ روائحكٍ الزكية رئتي. ها أنتٍ ينام جسدكٍ الطاهر في جغرافيا مقبرة ” الضٍرامة” لروحكٍ الرحمة والخلود والسلام.