- ماجد زايد
في أسوأ أزمنة التشظي والحروب، أزمنة العنف والكوليرا والكثير من المحتالين، يعيش اليمنيون أسوأ فترات الاستقطاب الطائفيّ الحاد، الجميع في هذا الوطن متشنجون عند التعبير على مواقفهم، ملامح حياتهم بائسة، عصبياتهم وإثنياتهم لا تلبث أن تهدأ حتى تطل برأسها مجددًا، البنية الاجتماعية تشتت كثيرًا وأختلت في معظم التفاصيل، النخب الوطنية والسياسية الصادقة غائبةً تمامًا أو تم تصفيتها، لا وجود لملامح أخرى عن الأفكار والثقافة والشخصيات الجامعة، لا وجود لأي أمل حقيقي في قلوب الناس وإجماعهم العام..!
إنه زمن مثقل بالعنف والحروب والنزاعات الطائفية، هذا الزمن يستدعي منا العودة حقًا الى ذواتنا، قبل أي شيء أخر، نحن بالفعل بأمس الحاجة للمراجعة والتفكير والوقوف جليًّا على مواضع الخلل في حياتنا ككل، ثم الإرتكاز الى قيم جديدة تستبعد الكراهية والأحقاد، وتنفتح نحو الغاية الإنسانية والمصير الواحد والعقيدة المتسامحة.
مشكلتنا الحقيقية تكمن في تماهينا البعيد مع الفكر المتأزم والنهج الإلزامي في الإنتماء للأحقية السياسية والدينية، خصوصًا مع مقاربتنا للسياسة والدين معًا. فـ”ديكارت” ومن سار على نهجه مثلاً، فهموا هذا الأمر في القرن السابع عشر، عندما غيروا من أساليبهم في التفكير إقتناعًا منهم بأن محاولة تغيير العالم تعتبر محاولة يائسة وتتجاوز القدرات البشرية، لذلك إرتدوا إلى الذات الشخصية لإصلاحها والتفكير معها وإنتبهوا الى العقل لتصويبه عبر تقويم منهجيته وطريقته، حتى أضحى ظاهرة فلسفية ما فتئت أن تحولت إلى تاريخ إنساني عظيم.
أن إستشراء العنف في بلادنا يعد أهم النتائج الحتمية لتغييب العقل عما يجري وسيجري، وذلك بالضرورة نتيجة إرتدادية لسيادة الخرافة والتطرف والعصبوية بكل مظاهرها، وعليه غاب التسامح وتلاشى الأمل الجاد بعد الإنحدار البعيد في هاوية الكارثة، لهذا لا مخرج لنا جميعًا سوى باستعادة العقل والفكر الإنساني المليء بالتسامح والحوار والقبول بالأخر والتعددية السياسية والدينية.
جون لوك نشر رسالته عن التسامح في مارس عام 1689، قال فيها: أنه ليس لأيِّ إنسان السلطةُ في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة نفسه هو، كون هذه المسألة شأن خاص ولا تعني أيَّ إنسان آخر. إن الله لم يمنح هذه السلطة لأيِّ إنسان ولا لأية جماعة، ولا يمكن لأيِّ إنسان أن يمنحها لإنسان آخر على الإطلاق، ويرجع هذا، بحسب لوك، إلى سببين:
- أولهما، أن الناس في الدول كلِّها معرَّضون للخطأ، سواء كانوا حكامًا أم محكومين، علماء أو أساتذة، فليس من المعقول أن يوضع الإنسانُ تحت التوجيه المطلق لأولئك الذين يمكن أن يقعوا في الخطأ في مسألة بهذه الخطورة، والخطورة الأبدية تعني بالضرورة إنهم إنْ أساءوا إرشادنا فلن يستطيعوا تعويضنا.
- ثانيهما، أنه لا فائدة من استعمال القوة لحمل الناس على سلوك الجادة المستقيمة نحو النجاة، وذلك لأنه لا يمكن لأيِّ إكراه أن يجعل إنسانًا أخر يؤمن بضد ما يقتنع به في ضوء عقله واقتناعه، وإنْ كان قد يحمله على الإقرار باللسان. لكن الإقرار باللسان غير المقترن بالإخلاص لن يدفع بالإنسان إلى أيِّ مكان غير ذلك الذي يتقاسمه مع المنافقين، ولن يفعل شيئًا في عبادة الله مَن لا يحكِّم ضميرَه في أنها هي العبادة التي يتطلَّبها الله ويقبلها. لهذا لا يجوز إرغامُ أحد على الدخول في مشاركةٍ يحكم هو، في أعماق ضميره، بأنها مضادة لما يراه الغرضَ من الدخول في هذه المشاركة، أي نجاة نفسه.
لقد بنى جون لوك إعادة سياغية لهذه المفاهيم، على أساسين مهمين، الأول سياسي يتحدد من خلال عمله على إفراغ الدين من كل ما يتيح ويبرر لرجالاته وأشخاصه للتسلط على الجمهور والشعب، والثاني فلسفي يظهر من خلال إشتغاله على تحديد طبيعة عمل كل من الهدف الديني والسياسي.
هذه الرسالة المدوية طبعت الى معظم لغات الدنيا ووصلت الى أصقاع العالم، رسالة التوصيف الفعلي للحرية والحياة، رسالة أسهمت بإنهاء العصور الوسطى الجحيمية بأوروبا، عصور الملّة الدينية في تلويناتها الإبراهيمية المختلفة، وبالفعل عصور الظلام في أوروبا بلغت حضيضها الأخلاقي في ما سُمّي بـ “حروب الأديان” . مبتدأتةً عصر التنوير الأوروبي، عصر أغلقته الثورات الأوروبية حين سلّمت مهمة تشكيل هوية الفرد الحديث إلى الدولة مشكلة بذلك الأمة التي فرضت بصمة أخلاقية عن طريق التسامح لا سواه.
عائلة الله ونهاية الكارثة:
بعد فكرة التسامح والقبول بالأخر، نحن بأمس الحاجة الى حوار متمدن، حوار من منطلقات العقد الإجتماعي المؤسس للدولة الراعية لشئون الأفراد، كل الأفراد، الغاية من هذا الحوار الوجودي تكمن في لم الشمل الجمعي بكل أطيافه وتوجهاته ومذاهبه وتياراته وأحزابه، أن يلتقي الجميع في يوم من الأيام بمن فيهم غير المعتقدين بصوابية الحوار، ذلك بالطبع مستقبل عظيم. الحوار الحضاري أو المتمدن يأتي في نطاق النظر إلى الإنسان كفرد من عائلة كبرى هي “عائلة الله”. كما يقول التونسي محمد الطالبي في كتابه “عيال الله”. العائلة البشرية الواحدة التي يعم في حياتها الحوارُ والتآخي والتسامح، الحياة على أساس التعددية وقبول الاختلاف، عائلة تسيرها عقيدة تؤمن بجميع الأديان وهي بالضرورة أي الأديان تحب لأن يحصل الجميع من الخير تمامًا كما يحبه المرءُ لنفسه.
حياتنا وبلادنا سيكونان بخير عندما نتخلص من عصبة الأوغاد، الأوغاد الذين يبثون الكراهية في أصقاع الجغرافيا اليمنية باسم الدين، سنكون بخير عندما يتعلم أبناء الوطن الواحد العيش مع كل تنوعات الشعب، عندما ينتهي الجهل والتخلف والإكراه، عندما يعيش الناس مع بعضهم لبعضهم في كل شيء، يومها سيفهم الناس دينهم وغاية وجودهم، وسيلتحق الجميع بركب الوطن والتعايش، يومها ستنتهي المأساة وسينتصر الحب والسلام وستتحقق فكرة الوطن الواحد والمستقبل الموعود.
عليه السلام من سيصنع السلام لهذا الوطن.
- اللوحة بريشة للفنان ذي يزن العلوي
- مقال كتبته منذ عامين، لكنه يظل مهمًا جدًا في وضعنا المتأزم أكثر وأكثر.