- نزار القاضي
كمجيء غيمة مألوفة أراه عائدٌ الآن،
يخرج من إنهاك النهار عليه لمغربية يرتديها أفقٌ عابر،
يخلع عنه كل مآثر اليوم العالقةُ به
والصور العشوائية، تُناوله لحظة تَذكُّر ..
شيئاً من حنين صار يعيش فقط ليفر منه!
تتلقف الأريكة منه جسده المرتب
داخل بدلة رسمية وعِطرٌ مخادع كالبرتقال،
تشرع إحدى يديه في رحلة صيدٍ عبثية لأشياء بالقرب؛
صحيفةٌ تقرأ في وجههِ .. الحوادث،
سجائرٔ لطالما بخّرت الكثير من وحدته والهواء الضيف،
كأسٌ شرب فيها مساء الأمس نخبٌ قصيرٌ آخر على ماضيه المتهالك،
ماضيه .. يقاوم ذاكرته
ثم لفرط ارتباكه
كاد بعضه أن يغادر بعضه!
هو المُغترب في وعيه
المُقيم وأوجاعه في شقة لا تخاطب الغرباء قطّ
ولها من الغربة ما يجعلها شبيهة بغدٍ غريب أيضاً،
يقترب من بوابتها كلما زاد من تمسكه بغدّ.
بين الأريكة والباب يُبادل الأشياء نظرات جافة
قبل أن يصافح مقبضٌ يفصل ما بين وقته ووقته
بين رهانٌ وآخر،
يفعل هذا عادة مرتين في يومه
حينما يغادر نومه لمكتبه صباحاً
ومساءاً لكسب المزيد من القسوة!
وحيدٌ شبه واقفٌ هو الآن
وتنام على قدميه شوارع،
اختار لنفسه إسمٌ من سَفر
فلا يراه حمقى الأمس!
هذا الشارع الهادئ من تطفّلُ الضوضائيين؛
لمَ لمْ يكن حياة طفولته وشبابه!!
هذه الأشجار التي لا ترى إلّا ذاتها فلا تشيب:
ليست كوجه أبيه الذي لكثرة تبسّمه ِالمجانيْ
شاخَ باكراً وغاب!
هذا النسيم الجميل ببرودته أولى بالتذكّر من وجه حبيبته..
كأنه بَصق في وجه ماضيه حين تذكرها ك’حبيبة’!!
هذه الأبراج دائمة الحضور دون تأمّل؛
حتماً هي أصدق من ضحكات من كانوا أصدقاء له،
لمَ في حياتي لم أعرف إلّا الوهم؟ كأنه قال ذلك لنفسه،
هو الآن سعيدٌ ربما لأنه صار دون وهمه،
وكلما أشاح بنظره في أُفق هذه المدينة المشغولة
همس لقلبه: هُنا، ومعاً فقط .. نكون الكثير من السعادة،
ليُجيبَ عن قلبه بالرغبة في العودة لشرب نخبٌ قصيرٌ آخرق
على جثة الـ’هناك’ البائس جداً.