- فارس العليي*
هذه هي المرة الثانية التي اكتب فيها عن تجربة الشاعر المبدع وضاح اليمن عبد القادر ففي المرة الأولى كتبت دراسة اعتقد انها جميلة وذات ملمح خاص لأنني كتبتها في لحظة خلق جميلة الا انني كعادتي فقدتها ، وكم تهربت من محاولة تكرار الأمر والكتابة مجددا عن تجربته في “آخر هزيمة للضوء ” الأمر الذي يفتح لنا بابا للتساؤل حول محاولة تجاهل بعض التجارب في المشهد الشعري والإبداعي لصالح شللية مضللة ومفرغة مثل طبل خاوٍ واستهجان تجارب لامعه وبراقة الأجمل فيها انها لا تأبه بمن تجاهلها ولا بضجيجهم الإعلامي الصاخب واحتفاءاتهم مدفوعة الأجر ، اولئك هم من انتجوا لنا تأزمات وامراض ادبية عصية عن العلاج من دوخانهم واسقاطاتهم ناهيك عن تكريس حضورهم واسماءهم في المشاركات والفعاليات الادبية والشعرية والنقدية في الداخل والخارج كقراصنة ، وسط مريض ومنكفئ على مصالحة فقط وهم مثل الزبد . وضاح اليمن عبدالقادر كاتب وصحفي وفنان تشكيلي وشاعر من شعراء الألفيين اذا اردنا معرفة بدايته الشعرية لا قولبته واسمنته بالتأكيد ، عرفته مطلع العام 2011م في العاصمة صنعاء إبان ثورة الشباب السلمية في احدى مبادرة تأسيس مجلس اعلامي ثوري يعبر بجلاء عن صوت مستقل للثوار للشباب باسم “المجلس الإعلامي للثورة ” وكان وضاح اليمن احد أهم مؤسسيه ، كنت مسئول المركز الإعلامي لساحة التغيير في محافظة حجة بينما كان وضاح اليمن مسئولا عن المركز الإعلامي لساحة الحرية بتعز اهم ساحة من بين ساحات وميادين الثورة ورئيس تحرير اول صحيفة وموقع الكتروني ثوري بأسم “صوت الحرية ” لسان حال الساحة ، ومؤسس ايضا لائتلافات وحركات ثورية مختلفة بحكم جموحه وجنونه وشغفه بالعمل الثوري وتطلعاته لتأسيس وطن يتسع للجميع تحكمه دولة مؤسسات مدنية لتجاوز حالة تكريس سلطة البلد لخدمة قوى قبلية واسرية وعسكرية ودينية جثمت على البلد طيلة 33 عاما تآمرت على احلام الناس ، شغف جعلنا جميعا نحلم بذلك الوطن الجميل ، لكنني لمست عن قرب فرادة وحيوية صديقنا وضاح في الحركة وتصويب الأمور وصناعة الشغف الثوري واضفاء اللمسة الفريدة التي بالـتأكيد دفعنا ثمنها وفق رؤية مستقلة ومنفردة وفارقة عن الرؤى المرسومة المسيسة والتي كانت في معظمها تعبر عن النفس السياسي القادم من احزاب المشترك وحلفائه التي كانت معارضة للحكم آنذاك ، ورغم خفوت الصوت المستقل بفعل تغييب تلك المشاريع ومحاولة اختزال الأدوات الثورية والإعلامية وحصرها فيهم ” المشترك ” ومحاولة تجيير وحصر مستوى الفعل الثوري وتوجهه لخدمة مصالح وتوجهات تلك القوى السياسية في المشترك وحلفائه الا انه كانت لنا بصمة في تحريك العمل الثوري خصوصا الاعلامي ، واسهمنا في اصدار صحف ومواقع الكترونية مثلت رقما قويا في الثورة ، وبالعودة لوضاح اليمن رغم اهمية ما قلته سابقا لأنه متعلق بوضاح اليمن الثائر والشاعر والفنان والصحفي والكاتب فإن اغلب نصوص المجموعة في نظري تعبر عن ضوء الثورة الذي تفقست قناديله نصا نص جرحا جرح واملا امل .. 22 قنديلا هي عدد نصوص مجموعته ” آخر هزيمة للضوء” حاول الشاعر ان يبقيها مضيئة آملا في ان تتوهج أكثر لتضيء لكل اليمن .. ليس هناك ما هو اسوء من فقدانك للوطن فما بالك بثائر وشاعر وفنان يفقد الحبيب والأب والوطن و الأصدقاء دفعة واحدة وبخيبة واحدة وهذا واضح وجلي في نصوصه التي حملت عناوين مفخخة بالإحباط والخيبة ” آخر هزيمة للضوء ، اقدام مثخنة بالضوء وحبلى بالحلم ، صباح لا نجيد ارتداءه ، فنجان قهوة للوطن القادم ، في انتظار موعد لا يجيء ، بشرى ..نداء الغياب ونصان و نصوص طارئة ” هذه ابرز نصوص المجموعة الصادرة عن مؤسسة اروقة للدراسة والنشر في العاصمة المصرية القاهرة ، في طبعته الأولى بداية العام 2013م . ارتبط الشاعر بالإنسان وانغمس في واقع الحكايات وعمق طموحها وبساطة تناولاته لتلك القضايا في سياقات سردية آمنت جميعها بالإنسان و حرية المبدأ قبل أي فكرة اخرى ومما يبدوا انه وصف التجربة بألمها الخاص والعام مسددا الرمية بألمين في قلبا واحد ، قلبه ، كان يشاطر الجميع الحزن ولا يشاطره احد ، كان يشاركههم ثورتهم ولا يشاركه في ثورته احد ، كان يرسم ويلون عمق الآم الآخرين ولم يجد من يجسده في قطره لون واحده ، يصعد مع احجارهم السيزيفيه ولا احد يلمس حجره وحدها ” المسافة كانت تكبر في عينيّ المتسلق ، هو ، ” ربما كان احمق عندما قرر ان يتصدى لكراتهم المسددة وحده ، لكنه آمن بقاعدة ” الواحد للجميع والجميع لواحد ” كمحاربي الملك النبيل فيليب ، من يدري ! ربما فارق التجربة ونجاح الألم قد صنع وضاح اليمن بملمح آخر من الصعب طبعا تخيل شكله خصوصا في شخص مثل وضاح اليمن ، يذكرني بشخص آخر لا ادري من هو؟ لكنني متأكد انني سأتعرف اليه قريبا ” من اغتال الضوء / في كوة هذا القلب ؟/ من ايقظ العتمة من مخبئها / الرجل النارجيله / أم المرأة العكاز ” هكذا احب الشاعر ان يطبع نهاية وربما بداية لمشهد ما بهذه الكلمات على صفحة الغلاف الأخير ببياض طالما كان بياضا في هزيمة سحيقة وبأكثر الم ، وبغض النظر عن قالب التفعيلة في بعض نصوصه و ونصوص اخرى نثر ، الا اننا لا نستطيع القول انه تفعيلي في استكانه بعيدا عن الحركة الواضحة لطلاقة نصوص ثابرت لتكون نثرية بجدارة قاضمة على خبرة الكتابة وشأنها شأن تجارب عديدة قديمة وحديثة .. حديثة باتجاه النص المفتوح على كل قوالب واشكال الشعر حديثه وقديمة بما فيها الملاحم والأساطير التاريخية وبتراجيديتها وسخريتها ايضا فهذا هو مستقبل النص في توق ما بعد بعد الحداثة والذي سيعيد لكل اشكال الكتابة اعتبارها حسب تكهنات بودلير ” انت تقرا المجلات والملصقات والمنشورات ولوحات الاعلان هذا هو الشعر هذا الصباح ” . مثل نصه الأول في المجموعة “آخر هزيمة للضوء ” محاولة عبور من بوابة حنين و وجع ابوي ، انتمائه واضح للجرح والمسافة المفرطة في منتصف الحلم ، هناك مسافة تبلعها وهجنا وخذلاننا .. مسافة آيلة للسقوط واخرى تطول كلما تركنا لها المدى الى ان تضيع خطواتنا وهي تركل في التيه ، حسنا.. 22 نص شعري مثلت قناديل مجموعته بددت وهج المسافة بين الحلم والواقع شيعها الشاعر واستباح بها نفسه ، وحملت الكثير من الخيبة والانكسار والحلم والأمل وراوغ بها ما استطاع للامساك بمسافاته ، حيث المسافة بينه احلام استبدت به. عندما تتحرك الأقدام من تعز الى صنعاء فبالتأكيد ستخلف في القلب حزن بحجم قطار هذه المسافة هي ما خلفته مسيرة الحياة * ربما بمثل مسافة الفقد التي خلفها والده بعد موته ” ان الذي بيني وبيني / اضغاث أحلام هاربات / ليتهم تقيئوا المسافات / واستكانوا عند آخر هزيمة للضوء ” في رأيي وضاح اليمن يشبه مهندسي المساحات حيث افرد لتلك المساحات “والمسافات ” الواضحة في اغلب نصوصه مقاييس حافلة بالخيبة والحسرة في اغلب ما مرت به خطواته ، وخيبة الشاعر وكيف لا انها خيببة من يعشق الحرية وخيبة من يحب ، يبدو لنا ان الشاعر مثل الهنود الحُمر في امريكا حيث يوصي الهندي عدوه بأن يصون الأرض ويعاملها برأفة وهو يعرف في قرارة نفسه ان مصير الارض لن تكون احسن حالا من مصير شعبه.. وتعليقا على الإهداءات التي تلت عناوين المجموعة في نظري كان جديرا بالشاعر ان يترك نصوصه تهدي نفسها للجميع بدلا من ان يوسمها بداية كل نص بالإشارة لعديد من الأصدقاء وهو امر ليس فيه عيب او عله لكن من باب ان يدع للنصوص مداها دون ان يحاصرها بالإشارات ، نصوص هذه المجموعة ثائرة بحق وهي بمثابة تتبع ورصد للحالة التي يعيشها الثائر بحفاوته وانكساره و وهجة وجنونه واخطائه الكثيرة والفطرية ، وهي تجربة على الأرجح هامة استطاعت ان تخرج ذاتها من اللوم ومكوث هاجسها في الداخل لمحاصرة عديد من النصوص التي ربما يكتبها الشاعر الآن بعيدا عن لوم الحالة المتكدسة منذ زمن انكسارات كل شيء . نعم ..كل شيء “الثورة ، الأصدقاء ، اليتم ، و الحب ” وهنا نسأل : هل استطاع الشاعر تجاوز هذه الجروح ؟ هل يكتب الآن نص مختلف ؟ وبين الكلمة الأولى والكلمة الاخيرة يلمع وضاح اليمن معدن المكان والزمان ، من اول نص في المجموعة الى آخر نص ، النبرة الغنائية العالية نفسها يتغير الموضوع الظاهر ولا يتغير الايقاع الحزين ، في هذه المجموعة تخترق قراءته منعطفات ثورية ومعارك طويلة ومتشعبة مع الحب واليتم والتشرد الحميم والخيبة مع الاصدقاء ولهول ما يرى يسأل الم تولدهم الامهات ؟ ترى هل يؤرخ هنا الشعر الحاضر ام غياب الحاضر ، بحدسه الشعري يقول وضاح اليمن اللاوعي اليمني والعربي قصيدته ونصوصه ” صباح يتنكر لعلاقاته / مع العصافير / ويعتز بعلاقاته / مع الكلاشينكوف والــ أر بي جي / ” نبرة وصرخة ونداء ونداء آخر لصنعاء اي رؤيا هذه تجعل البحر اكثر عمقا والهاوية اكثر صعودا للسماء موجة واحدة تختلج في صدره تهيئ الشواطئ للرحيل ” مسكون بي أيها / البحر مسكون أنا بك / وكلانا مسكون بالأرق” نتساءل معه : كيف يمكن ان يولد كل هذا الشعر داخل كل هذه الفاجعة كيف يتنفس ويتمزق ويندهش كبهلوان حزين فوق الحبل ، قصيدته ” فنجان قهوة للوطن رر ” قصيدته نحن المواطن المطعون بوطنه والحب يحرق اصابع القصيدة ويجعلها ضمير المأساة صورة لهزيمة وادانة اشد وقعا من الهزيمة . من شجر الليل ” المورق بالحموضة ” يقطف وضاح اليمن قصيدته ، يعلو ويخفق ويتراءى لك المدى جناحين يا هاجس الطير . القصيدة مصلوبة وقادرة ان تغويك حتى مصلوبة ، وقادر ان يغويك شاعرها كطائر مصاب يتمايل ويترنح ويلطخ الهواء باهات دمه .
- شاعر وناقد يمني