- وميض شاكر
قلتها مرات عديدة، كانت أولها لنبيل سبيع، لنبيل صديقي الأديب هذه المرة.
تمتعني نصوص نبيل ومقالاته، يمتعني النقاش معه بنفس القدر. إحدى تلك
النقاشات كانت في العام 2009.
لا أتذكر الكثير من تفاصيل الحوار بيننا، لكني أتذكر مسرح الحوار أو مشهده، وأتذكر جوهره أو لبه بالطبع. كان المشهد ببساطة كاﻵتي.
وقت من الغياب في غرفة المكتبة، يليه ظهور لي في غرفة المعيشة، ثم صوتي ينادي:
يا نبيل، لليمن روائيون، وللرواية في اليمن محطات وأجيال. أتعرف على
المحطة الأولى وجيلها حتى الثمانينات بمحمد عبدالولي، وأعرف الثانية وجيلها من التسعينات للألفية بمحمد عثمان.
قبل ذلك بعام، اتصلت باشراق المقطري، زميلتي في العمل حينذاك، وصديقتي على الدوام، وشقيقة الروائية اليمنية وصديقتي بشرى المقطري.
هلوو اشراق، كيفك؟
– بخير.
تعالي عندنا.
– مقدرش.
لييييش؟
– جالسة أدور على رواية “رجة تحس بالكاد”، مقدرش أطلع تعز قبل ما أشتري الرواية لبشرى.
حق من؟
– محمد عثمان.
طيب أجلي الموضوع وتعالي.
– واااو.. بتقتلني بشرى!
انتهت المكالمة، لكن “رجة تحس بالكاد” لم تنتهي. بقي عنوان الرواية
يحدثني. سألت نفسي: “ما هذا العنوان الغريب؟ ما الذي يحاول محمد قوله؟
لماذا رجة تحس بالكاد؟
بعد المكالمة بعام تقريباً، أي في 2009، وبعد أن شغلني السؤال حول عنوان الرواية، اشتريت “رجة تحس بالكاد” للروائي
والمترجم اليمني محمد أحمد عثمان، التي صدرت عن دار عبادي للنشر في العام
2008.
اشتريت وقرأت الرواية في يوم واحد من العام 2009، ويبدو لي أن
ذلك اليوم كان الأطول من بين كل الأيام التي عرفتها. إنه يوم لا ينقضي! يوم يحضر في كل السنين من 2009 إلى 2019، مبدئياً.
يحضر، في كل مرة اقرأ
فيها رواية يمنية أخرى، يأتي بتفاصيل “رجة” التي أراها تتسلل بين سطور
الروايات الأخرى، وإن كانت الأخيرة بعيدة في الموضوع وأسلوب السرد، لكنها
هكذا تحضر دون أن يكون لي حول ولا قوة.
أحياناً، يحضر يوم “رجة” بدون سبب، يطب على رأسي فجأة غير آبه بتوفر أية مناسبة، يحضر ناثراً فوق رأسي تفاصيل الرواية نفسها.
ينثر أولاً اللون الأزرق الداكن الذي كان يغطي الباب الحديدي المزركش الذي بهتت ألوانه، ليس مع طول الزمن من 2009، يوم قرآتي للرواية، إلى 2019، يوم حديثي معكم اليوم، لا! لكن ألوانه كانت باهتة ومخدوشة منذ ولادتها في
“رجة”. الباب الأزرق الحديد الذي كان “وديع”، بطل الرواية، يطرقه بعد الظهر ليجد مدكى يقضى عليه وقت التخزينة في بيت عمه الطيب الذي توفي لاحقاً،
وحزنت أنا.
ينثر ثانياً زجاج واجهة “سيتي ماكس” بشارع الستين، وعلى كل
قطعة من الزجاج تنعكس صورة الشارع الحديث والمباني الحديثة في تصميمها
منبأةً عن نشوء تيار اجتماعي وسياسي يتقرب من الألفية بشكل أو بآخر.
ثم ينثر أوراق الفواتير لمعرض الكتاب في صنعاء، عفواً! بل الفواتير “المزورة” التي كان وديع واصدقاؤه يعرضونها على حارس بوابة معرض الكتاب ليمرروا
الكتب التي يحبون قرآءتها من دون أن يدفعوا قيمتها. لقد كانوا ينجحون في كل سنة يعقد فيها معرض الكتاب، وكان حارس البوابة يبتسم لهم في كل مرة أيضاً. يفعلون ذلك ليس بخلاً منهم أو شطارة، ولكن لأن جيوبهم بالكاد تملك قيمة
أجرة “الدبّاب”.
وينثر مياة نافورة معرض الكتاب. النافورة، التي كانت
تجلس على سطح إطارها الخارجي دائري الشكل، شابة يابانية جميلة تملك ساقين
كالعاج، كما أحب وديع وصفهما. أما وديع فكان يجلس بقرب صديقته اليابانية
مغرماً بالعاج وبصوت مياه النافورة، فأحب اليابانية وأحب النافورة، وأحب
معرض الكتاب، لكن كل ذلك تلاشى مع رحيل الشابة ذات الساقين العاجيين.
أخيراً، ينثر ذلك اليوم صوت الرجة. لقد كانت لمصعد في أحد المراكز الطبية
في صنعاء، صدرت حال انقطاع التيار الكهربائي عن المصعد فتوقف فجأة. كان
المصعد وقتها يقل وديع وآخر. بالصدفة كان رفيق وديع في المصعد رجلاً وشت
ملامحه بأنه من السودان! حينها خطرت صورة “آدم” في عيون وديع، وآدم رجل
سوداني كان يعمل في قسم التشريح لكلية الطب في صنعاء، أشتهر بلقب “سفاح
كلية الطب”، وهو من أرعبت جرائمه، بحق طالبات الطب البريئات، المجتمع
اليمني. تلك اللحظة بالذات، لحظة دخول صورة آدم للمصعد الساكن، وصفها محمد
عثمان بـ “رجة تحس بالكاد”.
هذا المنشور ليس عن الرواية، وليس عن
صاحبها. ليس منشوراً أدبي، ولا يقدم- بأي حال- قراءة أو نقد أدبي، فهذا
المجال ليس لي، ولديه فرسانه. هذا المنشور عن حضور رواية رجة تحس بالكاد في كل مرة لا أقرأ فيها رجة تحس بالكاد. عن الذكرى التي تحدث دوماً في
غيابها. عن الرجة التي تحس بالكاد في كل حدث على شاكلة حادثة المصعد، عن
نقاشي مع نبيل في ختام كل مناسبة للقراءة وتحضر فيها رجات محمد عثمان أو
رواياته.