- كتب: محمد ناجي أحمد
السعودية تحتل الوديعة:
يروي علي ناصر محمد واقعة احتلال السعودية للوديعة عام 1969، بعد أخذها للشرورة في عهد المملكة المتوكلية.
كانت “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بحاجة إلى مساعدة من الشماليين لتحرير الوديعة ،فشكلت وفدا برئاسة علي ناصر محمد ليقابل الرئيس عبد الرحمن الإرياني في تعز لطلب طيارين. يقول علي ناصر :” سبق أن تعرفت على الرئيس عبد الرحمن الإرياني ودارت بيننا مناقشات حول الوحدة اليمنية في القاهرة في أواخر عام 1967م، بحضور فيصل عبد اللطيف، ومحمد أحمد البيشي في منزله بالجيزة، وكان رأيه أن تتحقق الوحدة على مراحل تبدأ بالاتحاد وتنتهي بالوحدة”ص151. وقد سبق أن ذكرت ما كتبه الرئيس عبد الرحمن الإرياني عن ذلك اللقاء، وتوصيفه لرأي قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف من الوحدة، وهو موقف يختلف عن رأي عبد الفتاح إسماعيل. لكن الإرياني لم ينقل موقف علي ناصر لأنه في ذلك الحين لم يكن شخصية مفصلية في قيادة الجبهة القومية.
بسبب احتلال السعودية للوديعة في اكتوبر 1969، أرسل سالم رُبَيِّع علي وفدا على رأسه علي ناصر محمد وذلك للقاء الرئيس الإرياني من أجل طلب طيارين من الشمال لمساعدتهم في استرداد الوديعة وقد أحالهم الإرياني على الفريق حسن العمري في صنعاء بعد أن نصحهم بحل مشاكلهم بالحوار مع السعودية، وفي صنعاء سوّف الفريق حسن العمري ووعدهم أن يرسل الطيارين بعد العيد، فقد كان ذلك في شهر رمضان، لكن السعودية حسمت معركة الوديعة لصالحها، وكذلك كان رأي الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر بأن نصح الوفد بعدم الحرب مع السعودية. لكن موقف حسن العمري كما أوردنا ذلك في مقالة عن العمري والوديعة كان قد صرح للصحف بأن احتلال أي شبر من اليمن مسألة تعني كل اليمنيين، فهل كان التسويف يشمل كل قوى الحكم في صنعاء بما فيهم حسن العمري؟
ما يرويه علي ناصر محمد وتسويف حسن العمري بخصوص إرسال طيارين بعد العيد يجعل العمري ضمن القوى التي كانت تسوَّف وتضيع الوقت لصالح السعودية، ولأن عام 1969م كان عام الذهاب والتمهيد للتسوية التي عقدت مع السعودية في مارس 1970، ثم مايو 1970 والتي عُرِفت باتفاقية المصالحة بين الجمهورية والملكيين.
كان اللقاء في ديسمبر 1969 وقد أدى التأخير في إرسال الطيارين من الشمال إلى أن حسمت السعودية المعركة بالتعاون مع الطيارين الباكستانيين.ص152.
يسرد علي ناصر في كتابه هذا حكاية رواها له الأمير محمد بن الحسين، مفادها أنه أثناء معركة الوديعة اكتوبر 1969 اتصل به في الطائف الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران، وطلب منه التوجه إلى الشرورة، وكان في استقباله هناك الأمير خالد السديري أمير نجران(آنذاك) بغرض أن يقاتل هو والقبائل التي معه دعما لاحتلال السعودية للوديعة، إلاَّ أنه حين وصل إلى هناك كانت المعركة قد حسمت لصالح السعودية، لكن الأمير خالد السديري طلب من محمد بن الحسين أن يتحدث إلى الصحفيين بأن الوديعة أرض سعودية، وقد استحلفه بالله أمام الصحفيين أن يصرح بشهادة الحق، فشعر الأمير محمد بن الحسين بالحرج، لكنه بسبب شدة إلحاح خالد السديري :”أسألك بالله تتحدث مع الصحفيين بكل صراحة، هل هذه الأرض يمنية أم سعودية؟
حاول الأمير محمد بن الحسين التهرب من السؤال، وقال ” اعفني من هذا السؤال.
لكن الأمير السعودي أصر على سؤاله أمام الصحفيين والحاضرين!
وأمام إلحاح الأمير السديري، انحنى الأمير محمد بن الحسين إلى الأرض، وأخذ حفنة من التراب، ونظر إلى الأمير خالد السديري، وقال له : والله إن هذا التراب ملمسه يمني، ورائحته يمنية، وإنني أقف على أرض يمنية”ص154.هذه القصة يرويها علي ناصر نقلا عن الأمير محمد بن الحسين حين التقاه لأول مرة في عمَّان عام 1994م.
كان اعتقال الصحفي أحمد العبد والكسادي أي المجموعة الناصرية، وإعدامهم بتهمة العمالة لأمريكا وإسرائيل في أكتوبر من عام 1973م، من قِبَل جهاز المخابرات العسكرية، وهو جهاز مكلف بمتابعة نشاط التنظيمات السرية، وخاصة القومية، وبحسب ما يرويه علي ناصر في كتابه هذا، فالجهاز تابع نشاط الناصريين، والقى القبض عليهم، وتم إعدامهم بتهمة التخابر.
كان جهاز المخابرات العسكرية يتبع حينها رئاسة الجمهورية، وإداريا يتبع وزير الدفاع.
شارك علي ناصر محمد احتفالات ليبيا بجلاء القوات الأمريكية نيابة عن رئيس مجلس الرئاسة سالم ربيع علي، وفي لقائه مع معمر القذافي قائد الثورة حدثه القذافي بصراحته منتقدا سوء علاقتهم بالجمهورية العربية المتحدة، وانهم لا يحبون جمال عبد الناصر، مما يعني أن بوابة المساعدات الليبية تحسين العلاقة مع مصر وقياداتها، وانتقد النهج الماركسي في عدن الذي يتعارض مع الدين الإسلامي الحنيف، وكيف يحتفلون بمئوية ميلاد لينين ولا يحتفلون بعيد ميلاد الرسول العظم محمد بن عبد الله(ص)، ودعا إلى وحدة اليمن أرضا وشعبا.
مختتما حديثه بقوله :”إنني أنتمي إلى قبيلة بني هلال في اليمن” فقال له علي ناصر محمد :”وأنا كذلك”.ص203.
كان لليبيا معمر القذافي دور في تمويل حرب 1972 ضد جمهورية اليمن الديمقراطية تدعم بالمال لإسقاط ما سمته ب”الحكم الماركسي”، وفي هذا الخصوص يقول علي ناصر ” وقد تأكدت لي هذه المعلومات شخصيا بعد ذلك في 27-1-1993م في طرابلس من احد القياديين البارزين في القيادة الليبية، وهو عبد الله حجازي، الذي أوفد إلى صنعاء وأجرى لقاءات مع المسؤولين في النظام ومع المعارضة، وفي المقدمة الشيخ سنان أبو لحوم وإبراهيم الحمدي، وعبد القوي مكاوي، وحسين عثمان عشال، لبحث دعم المعارضة وإسقاط النظام في عدن عسكريا. واعترف لي بأنه وقعَّ اتفاقا بهذا الخصوص. وأنه يحتفظ بوثائقه، وانه أصبح جزءا من التاريخ. واعترف لي أيضا بأنهم بالمقابل قدموا أكثر من 10ملايين دولار للناصريين في اليمن لإسقاط النظام في صنعاء عام1978م، وجرت محاولة للانقلاب على الرئيس علي عبد الله صالح، لكنها فشلت، ما أدى إلى إعدام عدد من الناصريين، وفي مقدمتهم المناضل عيسى محمد سيف.”ص256.
في لقاء علي ناصر محمد مع عبد القوي مكاوي عن إمكانية عودة المعارضة إلى عدن في عام 1970،فوجد استعدادا لدى مكاوي شريطة تعيينه مندوبا في الأمم المتحدة، وحين جس نبضه بخصوص إمكانية عبد الله الأصنج الذي كان أحد أهم قادة “جبهة التحرير” قال علي ناصر “أخبرني أنه لا يثق به، ووصفه بـ”العميل” وصاحب وجوه متعددة، وله علاقات مشبوهة مع أكثر من طرف”ص205.
يضع علي ناصر محمد ذاكرته في كتابه هذا “ذاكرة وطن” رديفا للوطن، فمن عنوان الكتاب مرورا بكل محطاته وتفاصيله، وهو يرصد التباينات وتطرف وصراع الرفاق بعين المتأمل المحايد، وكأنه لم يكن عضوا في القيادة العامة والمكتب السياسي للجبهة القومية عند تسلمها للحكم، ولم يكن محافظا فوزيرا فرئيسا للوزراء، فجامعا لكل السلطات بيده، فمدبرا لمذبحة المكتب السياسي وكارثة 13يناير، إن لم يكن الرئيسي في محطات عديدة من الصراع فهو رئيسي فيها!
مما لا شك فيه أن العقل البدوي لعلي ناصر محمد قد تميز بذكاء ودهاء فطري نما مع الصراعات واستثمر التباينات، مما جعله الرقم الأهم في تاريخ الدولة والحزب في آن، بل واتاح له حدسه في إدارة الأزمات أن ينجو بنفسه وأن يصبح سلطة في كتابة التاريخ كما كان سلطة في صناعة الأحداث.
حين يتحدث علي ناصر محمد عن فيصل عبد اللطيف فإن تلك اللغة المدائحية والتي هي صحيحة بعموميتها- تستحضر إزاحة النقيض المستبطن أو هجاءه، أي عبد الفتاح إسماعيل.
أي أنها مدائح حق تستبطن الهجاء للمقابل الثاوي كخصيم، والذي يرد ذكره مباشرة أو بشكل غير مباشر كنصوصي يتطرف في إنزال النظريات على واقع مغاير، من حيث الزمن والإمكانات والتكوين الاجتماعي والمقدرات الاقتصادية والتوازنات في سياقها المحلي والإقليمي والدولي.
كان فيصل عبد اللطيف بحسب ما يصفه علي ناصر محمد في هذا الكتاب “أكثر معرفة بالواقع وفهما له، وأوثق صلة بظروفنا ومعاناتنا الوطنية، واقدر على استخلاص المعطيات والنتائج” ففي كتابه “رد اللجنة التنظيمية على كتاب نايف حواتمة : كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية” يتحدث فيصل عبد اللطيف عن القوانين المحركة للمجتمع، وضرورة فهمها كما هي في الواقع لا بالأحكام المسبقة في العقول. “وكثيرا ما نقع في أخطاء نظرية، وبالتالي نخطئ في التطبيق أو الممارسة. ويكون مرد هذه الأخطاء راجعا إلى أننا لم نفهم تلك القوانين فهما صحيحا، أو لأننا حاولنا أن نطبق مقاييس ومعايير فكرية صحيحة (نظريا) بحكم معارفنا وثقافتنا، ولكنها ليست صحيحة موضوعيا، لأننا لم نكتشف في الواقع المراد معالجته ما يلائم هذه المقاييس والمعايير” ص233.
لكن علي ناصر محمد عند حديثه عن مقتل فيصل عبد اللطيف داخل سجنه عام 1969م لا يجد ما يقول سوى أنه قُتِل “في ظروف غامضة”ص233. مع أن مقتله كان واضحا وساطعا وضوح الشمس في رابعة النهار التي تعمي من شدة إضاءتها!
فحين استنكر عبد الله باذيب قيام سلطة 22يونيو قتل فيصل عبد اللطيف واتصل بعبد الفتاح إسماعيل مدينا هذا الفعل كان تبرير عبد الفتاح إن فيصل حاول الهرب وقاوم!
لقد كانوا يخشون سلطة المعرفة والقيادة الكارزمية التي يتميز بها فيصل عبد اللطيف، تماما كما كانت الخشية من سالم ربيع علي حين تميز عن القيادة الجماعية وأراد لنفسه أن يصبح سلطة شعبية فكان القتل وأدا لحضورا جمعي لا قتلا لشخص محدود، إنها سلطة ودور الفرد في حركة التاريخ والتي تقابل كنقيض لسلطة القيادة الجماعية التي تواري جهلها وعنفها بسدانة النصوص وحفظ المقولات الجاهزة. فما أن يتميز الفرد من قطيع الجماعة حتى يصبح خطرا ينبغي محوه.
ما توصل إليه فيصل عبد اللطيف باستقرائه التحليلي لواقع الجنوب توصل إليه بعد ذلك صاحب كتاب “النجم الأحمر فوق اليمن” “أحمد عطية المصري” وقاله المستشرق الروسي ناؤومكين في كتابه “الجبهة القومية في الكفاح من أجل استقلال اليمن الجنوبية والديمقراطية الوطنية” من أن الواقع القبلي في اليمن هو جوهر التكوين الاجتماعي الذي تم القفز عليه ليكون السقوط داخل النظريات!
فالطبيعة القبلية للطبقات الاجتماعية في اليمن من فلاحين وبرجوازية صغيرة وعمال وجنود جميعها تعود إلى أصول فلاحية وبلاء للقبيلة. فليس هناك تمايز اجتماعي بل تشابك. يقول ناؤومكين في كتابه سابق الذكر :”لقد كانت العلاقات القبلية تقتحم كل الحياة الاجتماعية السياسية لليمن الجنوبية، متشابكة مع العلاقات الاجتماعية والسلالية وفي معظم المناطق كان يوجد تقسيم قبلي للعمل. وكان الانتماء إلى قبيلة معينة جزءا هاما من الوعي الذاتي لساكن المناطق الداخلية في اليمن الجنوبية” وفي حديثه عن “البروليتاريا” العدنية آنذاك، يشير ناؤومكين إلى أنها كانت لا تزال شديدة الارتباط بالزراعة” ص234-235.
في مقابل وعي فيصل عبد اللطيف يحضر الوعي التجريبي لعبد الفتاح إسماعيل، فقد كان هناك تجريبية واضحة في مسار الجبهة القومية والحزب الاشتراكي، لكنها تجريبية تنطلق من النصوص لتعود إليها، لا من الواقع وقوانينه وتحولاته وتفاعلاته التي تقتضي تعديلات وجدلا مستمرا .
على سبيل المثال فقد تم حذف البرجوازية الوطنية من التحالف الطبقي والسياسي في برنامج المؤتمر العام الخامس للجبهة القومية، يقول عبد الفتاح إسماعيل “لقد استثني من التحالف الطبقي لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ما يسمى البرجوازية الوطنية، وقد ورد هذا الاستثناء في برنامجنا لهذه المرحلة”، ويضيف :”إن هذا لم يكن مجرد استثناء كيفي أو عفوي، وإنما جاء بسبب طبيعة الظروف التي نعيشها، فلم يكن لدينا برجوازية وطنية حتى نقول بأن البرجوازية جزء من التحالف الطبقي والتحالف السياسي”ص236.
ثم تم التراجع عن هذا التصور في وثائق المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي اليمني المنعقد في تشرين/اكتوبر 1978م.
تحدث المقابلات في الذاكرة الواعية والمستبطنة لعلي ناصر محمد بين فيصل عبد اللطيف الذي يقرأ الواقع وتكويناته الاجتماعية وقوانينه، وبين عبد الفتاح إسماعيل النصوصي والتجريبي في محفوظاته النظرية “رجل موسكو في عدن” بحسب توصيف الصينيين له.
التتابع في التوصيف داخل متن الذاكرة يجعل هذه التوصيفات التقابلية تطفو بشكل جهري ومجهري.