- كتب: محمد ناجي أحمد
الإمام أحمد كما يراه المؤلف:
ترك الإمام أحمد الذي حكم اليمن من نهاية فبراير 1948 إلى سبتمبر 1962م أكثر الآثار دموية ، وكان أبوه يُلقبه بـ”الشيطان” بحسب مؤلف كتاب (اليمن واليمنيون) د. أوليغ بيريسيبكين.
ويبدو أن المؤلف قد التبس عليه الوصف الذي عُرِفِ به سيف الإسلام أحمد(أحمد ياجناه) منذ حروبه مع الزرانيق، وأنه مصروف عنه الرصاص بالجن الذين يحمونه، وتطيش الرصاص دون أن تؤثر فيه. لكن المؤلف توهم أن الإمام يحيى كان يطلق على ابنه أحمد لقب”الشيطان”!
من المعلوم أن “الآثار الدموية” التي تركها الإمام أحمد كانت تتمثل بحروبه حين كان أميرا لحجة، فقد قاد الحملات ضد تمردات حاشد وبكيل، ثم مع الزرانيق، لكنه حين أصبح نائبا للإمام على لواء تعز أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وإلى فبراير 1948 اعتقد الأحرار ورجالات الإصلاح أن سيف الإسلام أحمد سيكون ملاذا للعصريين والإصلاحيين، وحين سمعوه يردد محذرا ومهددا بأنه سيخضب سيفه بدماء العصريين فروا عام 1944 إلى عدن. وهناك أسسوا حزب الأحرار ثم تغير الاسم إلى الجمعية اليمانية الكبرى، وكتبوا في صحيفة “فتاة الجزيرة” وأسسوا صحيفة “صوت اليمن” لتكون صوتا يطالب بالتغيير والاصلاح الاجتماعي والتعليمي ونددوا باحتكار الحكم واحتكار التجارة بيد الإمام وأبنائه، مطالبين بإمامة دستورية.
ثم جاء الفضيل الورتلاني ممثلا للمرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنا، تحت ستار تأسيس شركة تجارية. واستطاع الفضيل الورتلاني أن ينحو بوجهة مسار الأحرار من طريقهم الإصلاحي والسلمي في التغيير إلى طريق التغيير الدموي باستخدام الاغتيالات.
فكان أن أقنع الفضيل الورتلاني قادة حزب الأحرار في عدن وصنعاء بضرورة اغتيال الإمام أحمد، وأفتى بوجوب ذلك، ثم عززها بفتوى من عبد الله الوزير بوجوب قتل الإمام يحيى. وكانت النتيجة أن قام ناصر القردعي وعدد من مسلحيه، إضافة إلى عربية مطربلة من بوابير الجيش، وتَتَبُع لوجستي قام به أحمد الشامي، وبتخطيط من زوج بنت الإمام يحيى “تقية “-عبد الله بن علي الوزير، لتحديد مكان الإمام يحيى في طريقه إلى حزيز وخروج المنفذين من اجتماع في بيته، وهناك تم اغتياله ورئيس وزرائه العمري ونجله وسائقه.
كان التغيير باستخدام العنف الثوري لا يتجاوز قتل إمام ومبايعة إمام آخر، لهذا طالما أن التغيير لم يمس فكرة اجتثاث الإمامة كنظام يحتكر السلطة في البطنين، وتحتكرها الأسرة في الأكبر من أبنائها فإن حركة 17فبراير سرعان ما آلت إلى الفشل، ولو كانت نجحت لكان لها موعد مع ثورة 26سبتمبر 1962م، فثورة 26سبتمبر لم تكن ثورة ضد بيت حميد الدين فحسب لكنها كانت ثورة ضد احتكار السلطة بدعاوى العرق أو الدين أو الطبقة أو المنطقة، كانت ثورة لإحلال الشعب بما هو غالبية الطبقات المنتجة، من فلاحيين ومهنيين، وجنود، وعمال، أي الشعب الكادح المنتج، المعبر عن سلطته المعبرة عن تحالفات القوى المنتجة، لا تحالفات العرق والمذهب والمنطقة!
كانت نتيجة فشل حركة 1948م أن قام الإمام أحمد بترك صنعاء للفيد القبلي طيلة ثلاثة أيام، وكان ضحية الفيد ضعفاء الناس أمّا من كان من ذوي البيوتات فقد وجدوا في سيوف الإسلام ملجأ لحماية أموالهم وبيوتهم.
أُعدم قادة الحركة، وزج ببعضهم سجون حجة لسنوات.
وكانت رسالة الملك عبد العزيز بن سعود مرشدة للإمام أحمد وهي تعترف به إماما وملكا، ثم تنصحه بقتل قادة الحركة، المجرمين والخارجين عن الدين بحسب وصفه، والعفو عن تابعيهم من العشائر والسكان!
كان موقف الملك عبد العزيز بن سعود ضدا لحركة التغيير في اليمن، وإن أغرى عبد الله الوزير بأنه سيدعمه إن هو انتزع الحكم لنفسه، ومع بوادر نجاح التغيير لصالح إمام آخر من البطنين، ومتعاضد في فكره وحركته مع جماعة الإخوان المسلمين كان خوف الملك عبد العزيز بن سعود، متعللا بأن اتفاقه على التغيير لم يتضمن “قتل الشيبة” أي الإمام يحيى.
أرسل الملك عبد العزيز بن سعود بالبرقية التالية، معترفا بها بإمامة وملك أحمد وناصحا له كيفية التعامل مع قادة الحركة وأتباعهم من السكان والعشائر، فقد جاء في البرقية :”…إن سعادتي كشقيق لكم ورضاي كانا عظيمين بسبب تحقيقكم للنصر، في هذا السياق أريد كشقيق لكم الطلب بالأخذ برأيي في مسألتين، الأولى هي اتخاذ قرار من مسألة المجرمين الذين تخلوا عن دينهم وقتلوا الإمام المرحوم والدكم وأبنائه، ويطلب كل العرب والمسلمون منكم ذلك وسيكونون سعيدين إذا نطقتم بالحكم العادل. وثانيا، فليعطي جلالتكم الرحمة لأتباعهم أعضاء العشائر والسكان الذين خدعوا من قبل هؤلاء المجرمين، إن ذلك سيسمح بتجنب القلق من جانب الأتباع والحصول على اعتراف من العالم بأجمعه…”ص138-اليمن واليمنيون.
أدار الملك عبد العزيز بن سعود لعبته السياسية بدهاء ومكر إزاء حركة 17فبراير 1948. فقد أعطى تلميحاته لعبد الله الوزير بأنهم سيساعدونه إن تم انتزاع الحكم، وحين تم اغتيال الإمام يحيى، ووجد الملك عبد العزيز أن حركة الإخوان المسلمين بقضها وقضيضها، إعلاميا وتنظيميا وتسليحا منخرطة في حركة 1948 تغير الموقف السعودي، وظل يماطل ويناور، بل وأعاق وصول بعثة الجامعة العربية إلى اليمن، محتجزا لها في الرياض، بحجة عدم قدرة الإمام الجديد على تأمين البعثة إن وصلت إلى صنعاء.
حَذَر الملك عبد العزيز بن سعود إزاء جماعة الإخوان المسلمين يعود إلى البدايات، فحين زاره المر شد العام حسن البناء بعد تأسيس الجماعة بسنوات وطلب منه تأسيس فرع للجماعة في السعودية، كان موقف الملك عبد العزيز أنه سيدعم الجماعة شرط امتناعها عن النشاط التنظيمي في مملكته.
لم يتوقف الدم منذ أن تم التأصيل له كنهج للتغيير في حركة 1948، فبعد بضع سنين؛ أي عام 1955م كان انقلاب المقدم أحمد الثلايا وسيف الإسلام عبد الله والعباس، لإحلال عبد الله إمام بدلا عن أخيه، وسرعان ما تهاوى الانقلاب بتحركات الإمام أحمد الذي استطاع أن يفك طوق الحراسة عليه داخل القصر، وأن يتواصل مع الجنود المرتبين في جبل صبر ومع الشيخ المحجاني المسئول عن قلعة القاهرة، ومع الشيخ حميد بن حسين الأحمر وعدد من المشايخ في الجيش البراني، لينتهي الانقلاب بإعدام قادته ، وعلى رأسهم المقدم أحمد الثلايا، وسيف الإسلام عبد الله والعباس وعشرات من المشاركين في هذا الانقلاب.
ثم يأتي سفر الإمام أحمد إلى إيطاليا فتبدأ مشايخ حاشد وبكيل بالتفكير بأخذ السلطة واستعادتها وفقا لعوايدها ، وعبروا عن ذلك بزواملهم. وعاد الإمام أحمد وعند وصوله خطب خطبته النارية التي جاء فيها “…وهذا الفرس والميدان ومن كذب جرب” وترتب على ذلك استدعاء عدد من المشايخ من حاشد وبكيل، فأعدم منهم الشيخ حسين الأحمر وابنه حميد، وألقى بالشيخ بن راجح في سجن حجه وآخرين.
ولم يمض سوى وقت قصير حتى تم اعتقال سعيد حسن فارع (إبليس)في السخنة بالحديدة وهو يحاول أن ينفذ عملية اغتيال للإمام أحمد، ثم محاولة عبد الله اللقية وعبد الله العلفي ومحسن الهندوانة، ونجاحهم في إصابة الإمام أحمد بالعديد من الرصاص داهل مستشفى الحديدة، لكن الإمام لم يمت وقُتِل الثلاثة: العلفي قيل انتحر واللقية والهندوانة تم اعتقالهم وتعذيبهم ثم إعدامهم.
ليكون الموعد مع ليلة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، كثمرة من ثمار التخطيط والتنظيم، وتكاتف الجهود الوطنية، والتي كان على رأسها تنظيم الضباط الأحرار، وليسقط النظام الإمامي ويعتلي الشعب كرسي حكمه، وليتداول ذلك الكرسي الضباط أبناء الحِرفيين والفلاحة، والقضاء.
يقع المؤلف صاحب كتاب ” اليمن واليمنيون” بعديد أخطاء وأغاليط، يقع فيها العديد من المستشرقين، ومن ذلك توهمه أن كمينا كان في تعز مكلفا من قادة حركة 48م بانتظار مرور سيف الإسلام أحمد ليتم اغتياله، والحقيقة أن المكلفين بتنفيذ المهمة بدرت منهم الخيانة وأبلغوا سيف الإسلام أحمد، ولم ينفذوا ما أوكل إليهم، وفي الحديدة كان نائب الإمام حسين الحلالي ضمن المتفق معهم على إسقاط حكم بيت حميد الدين وتولية عبد الله الوزير، لكنه أظهر الموافقة وأبطن الخيانة والوقوف مع سيف الإسلام أحمد، وكان لدوره كبير أثر في فشل حركة فبراير.
يقدم المؤلف صورة خاطئة عن الإمام أحمد، حين يكرر في أكثر من موضع من الكتاب، أن قصور الإمام كانت مليئة بالخمور، وأنه عند قيام ثورة 26سبتمبر واقتحامهم لقصر العرضي وصالة بتعز، قاموا بتكسير قوارير الخمور فسالت نهرا!
لم نجد من يتحدث عن الإمام أحمد بأنه كان يتعاطى المخدرات والخمور إضافة إلى مؤلف هذا الكتاب إلاَّ عددا قليلا وبلغة يغلب عليها إعادة رسم السردية المهزومة وفق تصور المنتصر، بل ويضيف اللواء محمد علي الأكوع صفة الشذوذ وغرابة الأطوار. لكن الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني والأستاذ أحمد محمد نعمان وعبد الله عبد الوهاب الشماحي، والعلامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني وآخرين، كانوا يصفون أحمد حميد الدين كما هو بعنفه وعلمه وسرعة بديهيته، وحبه للمفارقات والألغاز والمسائل العلمية والمعارضات الشعرية ، واستبداديته بالحكم. لكنهم لا يلجؤون إلى اختلاق الأكاذيب الأخلاقية والتهم المجانية!