- عبدالملك الحاج
من الضنك والطفش…
بكر مسافر غبش…
اين اشتروح يا مغبش…
قال أرض الحبش…
تقدم خطوات وهو يلوح بيده ولكن هذه التلويحة لم تكن لـ ” محمد ثابت” جمال القرية الذي رافقه الى رصيف الميناء لتوديعه وإنما لكي يقوم بإيصالها الى زوجته نعمة، ثم يصعد الى ظهر الزعيمه التي تبحر من ميناء التواهي ومتوجهه الى ميناء عصب.
من اسمرة شق المغبش طريقه وسط البراري والهضاب وقطع المسافات الطويلة ومر بالكثير من الوديان والواحات حتى وصل الى “دردوا” احدى المدن الجميلة بالحبشة، لقد اصابته الدهشة وهو يشاهد منظرها الساحر والخلاب فقد بدت له وكأنها غابة من الأشجار الباسقة رائعة الجمال والخضرة.
لقد سمع الكثير والكثير من الحكايات في القرية وعدن عن هذه البلاد الساحرة، عن الرجال الذين تركوا بلادهم وهاجروا اليها ولم يستطيعون فراقها، وعن الساحرات اللواتي يسحرن اليمنيين في أديس ودردوا ودبرزيت وهرر ودبرهان، وحكاية ناشر غالب الذي أبحر بالزعيمة إلى عصب وآله، وشق البحور السبعة حتى وصل الى “تنكا بلاد النامس”، لقد عرف المعنى الحقيقي لجمال ومتعة الحياة فيها، وعندما كَحّل عيونه بتلك المناظر المسكونة بالماء والخضرة والوجه المليح، ادرك حينها السبب الذي جعل كل من يصل إليها من اليمنيين يستوطنها ولا يعود منها، ومن عاد يعود وقلبه لا يزال أسيراََ بعشقها، متيماََ بجمالها، مفتوناََ بطبيعتها متأثراََ بطيبة اهلها وبساطة العيش فيها.
بعد وصوله الى الحبشة استطاع أن يتكيف مع الإنفتاح الاخلاقي في المجتمع الحبشي تدريجيا كونه انتقل انتقال مباشر من مجتمع يسوده التزمت الحاد الى مجتمع منفتح خالي من الحواجز والقيود، فقد أعطته الحبشة الأمان ومنحته الطمأنينة واسقته الحنان والحب الذي لم يذق طعمه من قبل ومارس فيها كامل حريته، لم يضطهد او يمارس ضده اي اسلوب من الاساليب العرقية او الطائفية او العنصرية او اي وصايا من الوصايا الدينية او الدنيوية، لقد وجد في بلاد الحبشة ما لم يجده في بلاده اليمن.
لم يشعر المغبش يوماََ من الايام انه غريب في غربته، فهو يعيش في بلاد لم تشعره بالغربة او يحس بأنه فيها غريب، بل عرف ان الغربة الحقيقية هى التي يقاسيها الانسان اليمني المغترب في اليمن فهو يعيش بها مهمشاََ ويموت غريباََ وهو لا يملك شبراََ في الأرض التي تعتبر بلاده وموطنه، يعيش فيها غريب يبحث في وطنه عن وطن، عن مأوى وسكن، عن لقمة عيش تسد رمقه.. يبحث عن انسانيته المفقوده وحقوقه الضائعة الى ان يموت غريب في وطنه الذي لم يمنحه حتى حقه في المواطنة.
استقر المغبش في “دردوا”، تعرف على العديد من الاصدقاء والصديقات الجدد من ابناء هذه المدينه والتقى ببعض اليمنيين هناك، لقد كان يشعر بفخر بلون بشرته ورجولته التي تعشقها الكثير من نساء الحارة، تعلم القليل من الكلمات الامهرية اللغة السائدة بالحبشة فعمل في العديد من المهن المختلفة بالاجر اليومي مقابل مبلغ ضئيل من المال لا يكفيه، تعرف على “برجيتا” صديقته الجديدة التي ساعدته ووقفت الى جانبه فقد كان يذهب معها الى الملاهي والمنتزهات لقضاء اوقات ممتعه اثناء العطلة الاسبوعية.
ذات يوم اتت اليه صديقته برجيتا تخبره بان امها تعاني من آلام في بطنها فقام المغبش على الفور باحضار بعض الاشجار وعمل تلك الوصفة او الخلطة من الأعشاب وقام بتحضير المشروب الذي اعطاه “لأم برجيتا” كي تشربه، لقد تعلم تحضير هذه الوصفة في القرية عندما كان يطلب منه السيد (عبد المجيد) تجميع بعض الأشجار ومن خلال الجلوس بجانبه لفترة لاباس بها استطاع ان يعرف الكثير في الاشجار الطبية المفيده لبعض الحالات المرضية، فمارس الطب الشعبي والمسيده معاََ.
وفي المساء اتت “برجيتا” تدعوه للعشاء في منزلها وتبلغه ان امها قد تماثلت للشفاء بفضل ذلك العلاج الذي قام بتحضيره.
انتشر الخبر في الحارة والحواري المجاورة وبدأ المغبش يمارس هذه المهنة التي تعود عليه بمبلغ لاباس به فقد كان مشجعا له كونه لايزال في البداية، كما ساعدته برجيتا بالحصول على المكان الوسيع الذي يقوم فيه بمزاولة عمله وكانت سنده ومساعده الاول بل استطاعت بواسطة اصدقائها وصديقاتها ان تجلب له الكثير من الزبائن خلال فترة قصيرة، واصبح المغبش يمارس مهنة المسيدة بعد ان غير اسمه الى السيد “الهويدي”.