- محمد ناجي أحمد
يستمر الناصريون في التوثيق للشهيد إبراهيم الحمدي كمشروع لـ(بناء الدولة اليمنية العصرية) وهو التعبير الذي استخدمه الرئيس إبراهيم الحمدي في كلمته الافتتاحية أمام لجنة الإعداد للمؤتمر الشعبي العام المزمع عقده في الحديدة عام 1977م، فيما الآخرون بعضهم ظل عقودا ينال منه ومن مشروعه بتشهير أخلاقي ، ثم اكتشف فجأة أنه يمكن استخدام هذه الأيقونة الراسخة في الضمير الشعبي للنيل من خصومهم شركاء الأمس!
أي تحويله إلى لافتة آنية ، واختزال مشروعه إلى قضية غدر وقتل و(غداء أخير)، لا قضية اختطاف مشروع وطني . وبعضهم ظل يجتر خيباته ، بيسارية طفولية ، حين استطاع الرئيس إبراهيم الحمدي تجاوزهم كحزب في استنهاض الواقع الشعبي والجماهيري ، وفهم حاجاته ، وآليات تطويره وتنميته ، إنسان وسيادة وطنية مستقلة القرار.
قدم يحيى منصور أبو اصبع في برنامجه السياسي لأحمد حسين الغشمي (أخ الرئيس) بحسب ما كان يناديه- وهو المشروع الذي عكفت على إنجازه قيادة الحزب الديمقراطي الثوري اليمني. وعند التأمل في أفكاره نجده لا يرقى لأن يكون هامشا من هوامش رؤية الرئيس إبراهيم الحمدي لـ(بناء الدولة اليمنية العصرية) والتي ألقاها في خطابه عشية الذكرى الثالثة عشر للثورة 25/9/1975م.
مما استذكره أبو اصبع من مشروع حزبه المقدم باسمه الشخصي لـ(أخ الرئيس) أحمد حسين الغشمي ، في الحلقة(12) لشهادته عن عبد الوارث عبد الكريم :
بناء دولة قوية تمتد إلى كل مساحة الوطن ، من خلال بناء المدارس والطرقات ومزارع، والكهرباء والمطارات والجامعات والمعاهد الفنية والتقنية، والمستشفيات والمراكز الصحية، وتوفير المياه، ومشاريع الصرف الصحي، ، وببناء جيش وطني ، ، وأن يكون القانون والنظام صاحب الكلمة الفصل، والتركيز على التنمية البشرية، والمحافظة على القطاع العام ، وحمايته من الفساد ، وتشجيع رأس المال، وتحسين العلاقة مع الجنوب، والحفاظ على هيئات التعان الأهلي للتطوير ، وبناء قضاء مستقل ، وإطلاق المعتقلين، والسماح بالحريات ، مثل حرية الصحافة والجمعيات المدنية والتواصل مع القوى السياسية من خلال الجبهة الوطنية…
وما ذكره أبو اصبع في مشروعه الموجز لـ(أخ الرئيس ) أحمد الغشمي ، كما قلنا ليس سوى حواش وهوامش، ركيك في لغته ، ومجزأ في رؤيته من مشروع بناء الدولة اليمنية العصرية ، التي حدد رؤيته وأهدافه الرئيس إبراهيم الحمدي عشية العيد الثالث عشر للثورة اليمنية.
حدد الرئيس إبراهيم الحمدي رؤيته لتأسيس وبناء الدولة اليمنية العصرية مبتدأ إياها بمقدمة تعكس التصور واللغة المشتركة بينه وبين الناصريين، فهو يتحدث بلغة عقلية وجدانية ، محددا رؤيته بأنها استنباط من قاموس هذا الواقع الذي نعيشه ، على أرض هذا الوطن الغالي، الخ.
لغة مشتركة للوطنيين ،تلهمنا فهما لمشاكلنا وقضايانا الرئيسية ، والحلول الجذرية لها ، مؤكدا في مقدمته على خصوصية الشعوب في قضاياها وهمومها، . لكن الخصوصية ليست منبتة عن مشتركها الإنساني الجامع لكل الشعوب.
الخصوصية الوطنية لدى الحمدي تنبع من :
-مقدار ما يمتلكه الشعب من قدرات ومقدرات وتجارب ذاتية ، وثقافة وطنية ، وتراث روحي وفكر خاص.
-كل ما هو نافع ومفيد ، مما تمثله الطلائع الوطنية والواعية والمستنيرة من ثقافة وتجارب الشعوب.
-مما في الفكر الإنساني…
إن مفهوم الدولة اليمنية الحديثة لدى الحمدي يتمثل بـ:
-حكم وطني مستقل، تكتمل له وتتمثل فيه على المستوى الوطني الداخلي والخارجي كل معاني ومظاهر الحكم الوطني المستقل…
-قوات مسلحة وأمن وأجهزة أمنية تتجسد فيها في المقام الأول الولاء للوطن والدولة، والحرص على الاستقرار وأمن ومكاسب الشعب، وحماية السيادة الوطنية ، وتتجسد فيها صور الوحدة الوطنية . فلا ولاء إلاّ للوطن وللدولة، ولا احترام إلاّ للنظام والقانون ، فلا تبعية ولا إقليمية ، والوطن ومصلحته فوق وقبل أي اعتبار.
-خلق كوادر إدارية ومالية وفنية أمينة ومخلصة في الجهاز المدني…
-توفير المناخ الملائم ، وفق مخطط وبرامج الدولة للرأسمال الوطني الخاص والأجنبي، للاستثمار في المجالات الزراعية والعمرانية …
-إيجاد أجهزة الرقابة الدقيقة، والمحاكم الإدارية ، والمحاكم الجزائية منها والتجارية ، إلى جانب المحاكم الشرعية…
-تنظيم الخدمات وإيصالها إلى المواطن في المدن والأرياف ، طريق مستشفى ومستوصف وماء نقي للشرب، الخ.
إقامة علاقات الأخوة والصداقة والتعاون مع الأشقاء والأصدقاء على أساس من الاحترام المتبادل ، وحسب ما تمليه المصالح الوطنية العليا والمصالح المشتركة…إلخ.
وبوعي بما ستواجهه هذه الرؤية من عراقيل وتحديات على أرض الواقع فقد خاطب التجمعات الوطنية ، على العمل المشترك ، لإنجاز بناء الدولة اليمنية العصرية، فالمادة الأولى حسب قوله في برامج ولوائح كل القوى الوطنية هو بناء الدولة اليمنية العصرية ،” بما في ذلك بقايا الحالمين بعودة الإمامة بمسوح جديدة ، بعد أن لفظناها ولفظها التاريخ معنا.”ص71.
إن إقامة الدولة المركزية ، وهي الفريضة الغائبة إلى يومنا –في مشروع الرئيس إبراهيم الحمدي هو ركيزة النهوض. ولذلك أراد الانطلاق من المركزية الإدارية ، فهي في صدارة حركة 13يونيو،فقد أعلن أن التصحيح المالي والإداري ، باعتبار ذلك هو المدخل الصحيح إلى بناء دولة النظام والقانون، وأنشأنا النيابة الإدارية والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ، وذلك لإنهاء العبث بأموال الدولة ، والفساد الإداري ، ومحاسبة ومعاقبة العابثين والمستهترين…
وعن الديمقراطية البرلمانية ، فقد كان تصور الحمدي عنها بأنها نهج سنعمل على حمايته من العبث وسوء الاستخدام ،بحيث تكون فعلا ديمقراطية ، وذلك عن طريق انتخاب حر ومباشر لممثليهم” دون خوف من أي ضغط وأي سيطرة، أو استغلال للمراكز والوجاهات ، وبلا رهبة أو تهديد من أحد ، أو خشية من استعمال نفوذ أو قسر ، وحسب قانون الانتخابات. فالمواطنون أحرار ومتساوون في الحقوق والواجبات، ومن حقهم أن يختاروا من يثقون بهم ويرون فيهم الكفاءة والقدرة والإخلاص عنهم”ص73.
شمل برنامجه للدولة اليمنية العصرية : التصحيح المالي والإداري في القوات المسلحة والأمن، والأجهزة الأمنية ..
وكذلك رعاية وتنمية القطاع العمالي ،ورفع أجوره ، والرعاية الصحية والتعليمية والاجتماعية له، وكذلك العمال المغتربين…
الزراعة والسدود وإنشاء بنك التسليف الزراعي ،والطرقات ، على طريق الوصول إلى تحقيق الرخاء لقطاع الفلاحين ، الذين هم غالبية الشعب.
الاهتمامات بتنمية قطاع الشباب ، والصناعات المحلية ، وحمايتها من منافسة الصناعات الأجنبية المماثلة، وعلى الإعلام أن يؤدي دوره في هذا الجانب…
وعن الوحدة اليمنية يقول إبراهيم الحمدي” ومثلما حددت مبادئ ثورة السادس والعشرون من سبتمبر الخالدة ملامح المجتمع الجديد الذي قامت من أجل إيجاده والعلاقات الاجتماعية داخله ، وعلاقات الدول بالمجتمع ، وعلاقة المجتمع بالدولة ، وأكدت على وحدة التراب اليمني ، وانطلاقا من هذا التأكيد نمضي في طريق الحوار مع أخوتنا وأهلنا في الشطر الجنوبي من الوطن، لتحقيق إعادة وحدة تراب يمننا العزيز ، وبالمزيد من التفاهم والمرونة والصبر تتهيأ الظروف الملائمة…”ص78.
وبخصوص العلاقة مع الأشقاء ودول الجوار ، فإنها تكون وفقا لما حددته أهداف 26سبتمبر ،على أساس المصالح الوطنية …
ونصرة القضايا القومية والمصيرية ،والقضية الفلسطينية ، وقضايا الحق والعدل والسلام العالمي، .فالعلاقة مع الدول الصديقة ، شرقية كانت أو غربية تُبنى على المصالح والاحترام المتبادل. واضعين في الاعتبار موقف كل دولة منا ومن قضايانا العربية والاسلامية.ص78.
يستعرض الكاتب المجالس البرلمانية التي تشكلت في اليمن ،ابتداء من المجلس الوطني الذي تأسس في مارس 1969من (45) من بعض الشخصيات السياسية والاجتماعية والمشايخ والأعيان، كإطار تشريعي مؤقت ، انتخب فيه الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيسا في 16 مارس 1969م.
وفي 12 فبراير 1971 تم انتخاب مجلس شورى ،وفي 25 فبراير انتخب المجلس الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيسا للمجلس. ويبدو أن مجالس البرلمانات في اليمن ظلت انعكاسا للقوى المتنفذة ، فحين تم اغتيال الرئيس الحمدي ، عادت ديمقراطية الوجاهات والمشايخ من جديد ليكون عنوانها الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ، وأُفرغ المؤتمر الشعبي من تصوراته التي وضعت في عهد الحمدي ليصبح مرآة لقوى خمر .
وهما أي البرلمان والمؤتمر الشعبي في تصور الرئيس إبراهيم الحمدي كانا الحامل الشعبي لبناء الدولة اليمنية العصرية . لقد أراد أن يكون البرلمان صوتا للشعب ، وذلك ما نراه في كلمته التي ألقاها في افتتاحية الدورة الأولى لمجلس الشورى في الفترة الانتقالية يوم 5نوفمبر 1974م. فقد كانت إشاراته المجملة من أجل ترسيخ الديمقراطية بأن يصبح مجلس الشورى صوتا للشعب ، لا وكيلا للفساد، وطلب من المجلس بأن لا يكون كما تقول الإشاعات مشغولا بصراعاته ومصالحه وأهوائه وإنما معبرا عن مصالح الوطن، وأن علي المجلس أن يشد الشعب إلى قضيته الحقيقية ، في مواجهة الأعداء الحقيقيين : الفقر ، والجهل ، والمرض ، والتخلف المزري.ص93.
وجعل ثقة المواطنين تتعزز بأعضاء المجلس من خلال طرح مشاكل الشعب يإخلاص وأمانة ، بعيدا عن المزايدات المناورات ، وجعلهم يشعرون بأنهم فعلا يسهمون في تسيير شئون وطنهم …ص93-94.
كان الرئيس إبراهيم الحمدي يتجه نحو حياة ديمقراطية برلمانية مختلفة عن برلمانات القوى المتنفذة ، برلمان للجماهير ، لا لمصالح مراكز القوى، ، برلمانا يعبر عن الشعب لا عن القوى المهيمنة والمتنفذة في المجتمع. ديمقراطية عمادها مؤتمر شعبي للجماهير قوى الشعب ، وبرلمانا للمواطنين ، يمثل أصواتهم بدقة…
لهذا كان 11أكتوبر 1977م إعداما لمؤتمر شعبي يعبر عن قوى الشعب المنتج، وإعداما لانتخابات برلمانية معبرة عن صوت المواطن دون ضغوطات أو خوف أو قسر أو ترهيب ، وإعداما لوحدة يمنية كان مسارها يقوم على وحدة قوى الشعب الحي…
يقول الرئيس إبراهيم الحمدي في كلمته الافتتاحية لاجتماع لجنة الإعداد للمؤتمر الشعبي العام يوم 4إبريل 1977″الغرض من المؤتمر هو تلمس ما يريده الشعب في اجتماع عام تكون مردوداتها أساسية وهامة، وفهم الديمقراطية اليوم فهم آخر غير ما كان عليه في الماضي”ص106.
أي يكون الشعب ممثلا لنفسه لا خادما وتابعا للقوى المتنفذة في المجتمع.
بحسب خطاب الحمدي ، فقد حدد فيه الطرف المعيق لبرنامج (بناء الدولة اليمنية العصرية)
” هناك فئة يعتقدون بأن اتفاقهم هو إجماع الشعب ، وأن اختلافهم هو وجود تناقض في المجتمع، ونحن نعرف أن ممارسات غير ديمقراطية اتبعت في كثير من الأحيان .وكأن حرية الرأي هي من حقهم وليس من حق الشعب …الغرض من المؤتمر غير ما كان يفهم في الماضي ، وأعتقد أن هذا المؤتمر سيكون أول مؤتمر من نوعه في بلادنا، يشعر المواطن فعلا أنه يمارس حرية وديمقراطية حقيقية…”ص106.
لقد عاد الماضي بتصوراته ، مات مؤتمر الشعب المنتج ، وتلاشت تصوراته ولجنة اعداده باغتيال رأس برنامج البناء للدولة العصرية ، فتم تخليق مؤتمر شعبي من تصورات وأدبيات ودستور مؤتمر خمر الأول، أي بصيغتين ، إحداهما مضمرة وهي (حزب الله) والتسمية الثانية للتعامل الخارجي ، كغطاء في التداول الخارجي (المؤتمر الشعبي العام) متبعين في ذلك نصيحة الدكتور عبدالكريم الإرياني ومحسن العيني ، عام 1965م بأن يتخذوا اسم المؤتمر الشعبي ،كاسم خارجي ، ويجعلوا اسم “حزب الله” تسمية مضمرة للداخل ، كمشروع وحركة ومفاصل وتعبير ورؤى ومنهج…