- كتب/ طارق السكري
في قصيدة ( أبو تمام وعروبة اليوم ) للشاعر الكبير عبدالله البردوني ، تلك التي يستحضر فيها قصيدة فتح عمورية لأبي تمام :
السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ
في حدِّهِ الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
يقول البردوني في البيت الأربعين :
كذا إذا ابْيضَّ إيناعُ الحياةِ على ..
وجهِ الأديبِ أضاءَ الفكرُ والأدبُ
إن هذا البيت يستدعي وقفة تأمل . إن القارئ ليحار أمام هذه اللوحة
التشكيلية ، مشدوها ببراعة الألوان ، وجمال المعاني وهي تظهر في هذا المظهر الحسيِّ البديع ، وكأن القارئ يتساءل في نفسه : كيف استطاعت هذا الصورة
الفنية أن تأخذ بمجامع قلبي ، وتجعلني أذهل عما في يدي ؟ ترى ما سرُّ
الجمال فيها ؟ .
إن الشاعر العظيم هو الصادق في مشاعره ، والعظيم
في ألمه ، وصدق المشاعر ينبع من صفاء الروح ، والألم العظيم ينبع من تجارب
الحياة القاسية .
إن شاعرنا البردوني يشبِّهُ الحياة بتقلُّباتها ، والعوامل التي تؤثر فيها سلباً أو إيجاباً ، بالغصونِ الناضجة ، والغصون الناضجة هي الغصون التي استوفت حقها من الغذاء ، فنضجت ثمارها بعد مِطال ، وصار لأوراقها بريقاً . ولكن لماذا اختار الشاعر وجهَ الأديب ؟ إن
البردوني يتحدث عن الخبرات التراكمية من المعارف التي يمرُّ بها عقلُ
المفكِّر ، فالعقل كالزهرةِ لم يولد كاملاً ، والتجارب الطويلة في الحياة
لا بد وأن تترك أثرا ظاهرا على الإنسان ، فبياض شعر الأديب ، إنما هو نتيجة طبيعية لاستغراقه في التأمل ، وانشغاله بصراع البقاء ، ومكابدة التحصيل
والكتابة . وما تمر به الأمة اليوم من منغصَّات ، تبك المنغصات والهزائم
العربية التي جعلت من الشاعر اللبناني الكبير خليل الحاوي يقدم على
الإنتحار ، لهي كفيلة بأن تشيب الصغير ، وتذيب الصخر .
ولكن كيف
يبيضُّ إيناعُ الحياة على وجه الأديب ؟ إن البردوني يجعل من وجه الأديب
تربة خصبة للوعي ، إن هذه التربة لا تطلع تفاحاً ولا برتقالا ، وإنما تطلع
فكرا وأدبا . وكما يمرُّ الزرع في التربة بعوامل الإخصاب والبناء ، والتعهد والسقاية ، والاحتراق والانصهار ، فتظهر التشققات والتغيرات ، كذلك يظهر
التغير على وجه الأديب ، ويكون ظهور بياض الشيب ، علامة من علامات النبوغ
المبكِّر
إن ابيضاض الغصون في الشجرة يخفي وراءه أياماً طويلة
من العناء ، وابيضاض وجه الأديب ، يخفي وراءه سنين طويلة من النضال .
فالشاعر هنا لا يمدح نفسه كما قد يتوهم البعض ، وإنما الشاعر هنا ينشج
بمرارة ، ولكن العبقري يخفي حزنه وراء قناع ، وكان القناع هنا هو الصورة .
حبيبُ هذا صداك اليومَ أُنشدُهُ
لكن .. لماذا ترى وجهي وتكتئبُ ؟
ماذا أتعجبُ من شيبي على صغري
إني ولدتُ عجوزاً كيف تعتجبُ ؟
كذا إذا ابيضَّ إيناعُ الحياةِ على
وجهِ الأديبِ أضاءَ الفكرُ والأدبُ