- كتب / جمال جبران
افتتح عبد الله البردوني ( 1929- 1999) حياته بالعمى. عاش بعينين مبصرتين نحو ستة أعوام من عمره قبل أن يأكلهما وباء الجدري الذي حلّ باليمن وقتها ليطفئ عيوناً كثيرة من أبناء “السعيدة”، وذهب ذلك “الجدري” لاحقاً لكن آثاره بقت على وجه شاعر اليمن كبثور صغيرة تشير تُذكِّر بالوباء القديم. وكان عندما يسأله أحدهم عن اليمن، يجيب بسخرية فريدة عُرف بها “إذا أردت رؤية صورة اليمن فانظر إلى وجهي”. لاحقاً، لن يمنعه هذا العمى من التقدم في الحياة والنيل منها بعيون قلبه وعقله ليتحول إلى حالة شعرية وفكرية قلّ نظيرها في المساحة العربية، ما سوف يدفع عباس بيضون أن يكتب عنه قائلا: “عبد الله البردوني بمعنى ما معجزة الشعر كما كان المعري من قبل وطه حسين من بعد معجزة النثر”. كما أطلقوا عليه بعد وفاة الشاعر محمد مهدي الجواهري لقب آخر شعراء الكلاسيكية العربية الكبار.
طوال مسيرته بقي صاحب “زمان بلا نوعية” في حياته بعيداً عن أسلاك المؤسسة الرسمية وراعياً شخصياً لفعله الأدبي والفكري، لكي ينجو بنفسه من أي ضغوط أدمنت السلطة الحاكمة مارستها عن قصد في حق الأدباء وأصحاب الرأي لضمّهم إلى حظيرتها. لكن البردوني كان مؤسسة في حد ذاته ويسير في سياق مختلف تماماً يتيح له أن ينطلق في استخدام أدوات نقده لتلك السلطة في كل الاتجاهات.
على هذا، لم يكن شاعر “مدينة الغد” (1970) على علاقة جيدة بالرئيس الراحل علي عبد الله صالح. وهذا الأخير بدوره لم يكن متسامحاً مع الأدباء الخارجين عن حظيرة سلطته، وعلى وجه الخصوص مع البردوني الذي لم يكن يوفّر جلسة أو نقاشاً لينتقد “الرئيس” وطريقة تصرّفه بحياة أهل اليمن. وبما أن عيون وآذان الرئيس كانت كثيرة وفي كل مكان، لم يكن صعباً وصول كلام البردوني إليه. لكن من يقدر على مُعاقبة “شاعر الشعب”! لم يكن صالح قادراً على فعل أذيّة علنية في حق شاعر “لعيني أم بلقيس” (1972)، لقد كان “الرائي” محمّياً بسلطة الناس العاديين الذين سخّر شعره وكتبه الفكرية لهم وبأثمان زهيدة. نتذكر هنا، وبعد أن ندرت كتب البردوني في المكتبات حصل أن تلقى جائزة أدبية كبيرة (200 ألف دولار) لم يتردد حينها من توجيه المبلغ لإعادة طباعة ما شح من تلك المكتبات.
على هذا مضى شاعر “جوّاب العصور” (1991) في طريقه ولم يُفكّر لحظة واحدة في إعادة ترتيب علاقته بسلطة صالح. لكن هذا “الرئيس” لم يتوقف عن ملاحقته ومراقبته. لم يكن البردوني وقتها بغافل عن بعض “العناصر الثقافية” الذين كانوا يأتون إلى مقيله (جلسة القات) الأسبوعية التي كانت تقام في بيته. كما أن البيت نفسه كان مفتوحاً لكل طالب معرفة أو باحث عن جواب أو حوار صحافي أو جلسة نقاش.
ومن تلك الجلسات المُحاصرة بعيون راصدة كان البردوني لا يتوقف عن الحديث حول نتاجه القادم وقريبد الاصدار. في أيّامه الأخيرة، لم يتوقف شاعر “كائنات الشوق الآخر” (1987) عن حديثه حول عمل يحمل اسم “الجمهورية اليمنية” (وهو جزء ثان لكتابه القديم “اليمن الجمهوري” 1983) وفي الكتاب الأول يشرح البردوني، ويعلل الأسباب التي أدت لحرب صيف 1994 بين الشمال والجنوب بعد أربع سنوات من وحدة قامت بينهما، وعلاقة علي عبد الله صالح بها واغتياله فكرة الوحدة اليمنية، وهذا بحسب ما أعلنه البردوني نفسه في حوار صحافي محلي أجراه قبل وفاته بأشهر. إضافة لحديثه الدائم عن ديواني شعر هما “رحلة ابن من شاب قرناها” و”العشق في مرافئ القمر”، وكتاب في النقد سمّاه “الجديد والمتجدد في النقد الأدبيّ” ورواية عنوانها “العم ميمون”. كل هذه المخطوطات كان يشتغل عليها ويحكي عنها وهو الشغوف والمتعجل كأن موتاً محتملاً يلحق به.
لكن الموت جاء فعلا إلى بيت البردوني صباح 30 أغسطس في صنعاء من العام 1999.
ومع ذلك الموت جاست أصابع في البيت نفسه خلسة وأخذت تلك المخطوطات. دُفن البردوني وعاد أحبابه يسألون عن تلك الأشغال التي كان يحكي الرائي عنها طوال وقته.
كانت الأخبار بداية تقول إن شخصية قريبة من صالح، تدير مؤسسة صحافية كبيرة وتنطق بحال الجيش اليمني، هو أول من زار بيت البردوني بعد ساعات قليلة من وفاته. (هذه الشخصية صارت اليوم خارج اليمن بعد رحيل صالح). كان الأمر الأول لهذا الشخص لزوجة البردوني: عليكم أن تدفنوه سريعاً. هي رفضت في البداية لأنها كانت تريد له جنازة تليق به. ولم يتحقق لها الأمر. لقد تم دفنه في اليوم التالي. وهو اليوم التالي نفسه الذي اكتُشف فيه اختفاء المخطوطات.
بعد ذلك، انتظر عشاق البردوني أن تظهر أخبار عن المخطوطات نفسها لكن لا شيء طلع للضوء. واستمر الحال على ما هو عليه إلى حين قامت الثورة على نظام صالح. تغيّر الحال حينها. بدأت الأصوات في الطلوع. قامت مسيرات ووقفات احتجاج ومطالبة بهدف خروج تلك المخطوطات من مخبئها. لكن لا شيء ظهر.
صدرت بيانات تطالب بظهور أعمال البردوني. شعراء يكتبون هنا ونشطاء يؤسسون صفحات على فيسبوك تنادي بـ “استعادة إرث البردوني الضائع”. ولأول مرة في تاريخ الثقافة اليمنية تخرج مسيرة راجلة تخترق شوارع صنعاء يوم الخامس من سبتمبر 2013 وتصل لمقر وزارة الثقافة في وقفة احتجاجية تطالب قيادة الوزارة بالتدخل لمعرفة مصير مخطوطات الشاعر الرائي.
وقد كانت تلك الحركات المطالبة بنتاج البردوني المخفي تعتقد يقيناً أن الرئيس السابق نجح في الانتقام من عبد الله البردوني بعد وفاته فأخفى تلك الأعمال. وهو الأمر الذي دفع جهاز الأمن السياسي لإصدار بيان رسمي جاء فيه أن هذا الجهاز الأمني قد أفرج عن كل الكتب التي كانت مُصادرة عنده، وتمّ تسليمها إلى الهيئة العامّة للكتاب لكنّ كُتب البردونيّ المُختفية لم تكن من بينها. (كان علي صالح قد خرج من السلطة، شكلياً).
واليوم، وقد رحل صالح، هل يمكن إعادة السؤال مجدداً: أين ذهبت مخطوطات البردوني وهل من سبيل لاستعادتها وطباعتها؟ طرحنا هذا على رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الشاعر مبارك سالمين فقال لنا: “لا أحد يستطيع أن يؤكد شيئا بخصوص تلك المخطوطات” مضيفاً: “إن عبدالله البردوني جزء من ضمير الشعب ولهذا كانت تهابه كل الأنظمة المتعاقبة وتتبع أثره”، أما عن أمر استعادتها فقال “هذا يحتاج إلى جهد كبير وتعاون من قبل الجميع وزارة ثقافة واتحاد أدباء وشخصيات اجتماعية كبيرة”.
وعليه يبدو أن تلك المخطوطات ستحتاج وقتا طويلا لكي ترى النور، إن كانت موجودة.