- محمد ناجي أحمد
يزعم الباحث أن الرئيس جمال عبد الناصر كان في خطبه يسمي الجنوب وعدن ب(الجنوب العربي)غير معترف بيمنية الجنوب! وهذا زعم ينقضه خطب ناصر العديدة والتي تحدث فيها عن عدن اليمنية والجنوب اليمني، لكن رواج مصطلح (الجنوب العربي) وفي الكليات العسكرية ، وهو ما أشار إليه (اللواء علي محمد صلاح )في مذكراته، حين اعترض على استاذه استخدامه مصطلح (الجنوب العربي) وحين طرده الأستاذ من قاعة الدرس وقفت إدارة الكلية مع موقف علي محمد صلاح واعتذرت له ،فأقول بأن سبب شيوع مصطلح (الجنوب العربي )في الكليات العسكرية والمدنية بمصر مرجعه في تقديري إلى طبيعة المناهج والمقررات التعليمية التي فرضها الاستعمار البريطاني طيلة سيطرته على مصر، مما جعل شيوع المصطلح يرد على الألسنة بشكل عفوي ،دون أن يكون محملا بدلالات سياسة، لكن جمال عبد الناصر في خطبه كان قد تحرر من هيمنة هذا المصطلح الشائع بدلالاته الاستعمارية…
يقول الباحث إن استراتيجية الولايات المتحدة في الإحلال بدلا عن بريطانيا في المنطقة وحتى نهاية الحرب في اليمن “لم تكن تدرك كلا من السعودية ومصر أنهما بيدقان في لعبة السياسة الأمريكية “ص289. وهذا القول مناف للموضوعية ،فلم تكن مصر بيدقا بيد المشروع الأمريكي ،وكانت السعودية وما زالت تمارس دورها الوظيفي في خدمة المشروع الأمريكي في المنطقة ،وفي استخدام النفط وتعويم أسعاره وفقا لمتطلبات الاستراتيجية الأمريكية ،ناهيك عند أدوارها العديدة هي وقطر والإمارات وغيرها من مشيخات الخليج، في تخصيب وتمويل (القاعدة) بعد أن أسقطوا الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، بحشود من (المجاهدين )!،ولا زال الدور مستمرا سواء بخصوص تمكين الصهيونية في المنطقة أو حروب أمريكا الباردة والساخنة وسط آسيا وشرقها!
لقد كان الدور المصري في اليمن من منطلق ومتطلبات الأمن المصري ،سواء في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث والمعاصر، زمن الفراعنة أو البطالمة أو زمن الصلحيين أو الأيوبيين، والمماليك أو زمن العثمانيين، الذين استولوا على مصر في القرن السادس عشر، وكانت حملاتهم تنطلق من مصر، لتأمين البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، وهي البوابة التي تحرك إليها صلاح الدين الأيوبي في حروبه مع الفرنجة خوفا من أن يخنقوه في مصر من الشرق في فلسطين ومن الجنوب في باب المندب، وهي ذات المنطلقات التي حكمت الفاطميين قبله ،وصولا إلى محمد علي باشا ومصر عبدالناصر…
إذا مصر عبد الناصر لم تكن بيدقا أمريكيا كما يزعم الباحث في كتابه هذا المليء بالمعلومات المغلوطة والخاطئة والتحيزات التي لا يقع فيها باحث يتحرى الحقيقة والتأريخ لها، وتأسيس موقف نقدي لها، لكن الباحث يقع في تجميع ينقض بعضه بعضا أحيانا ،وبطريقة حاطب ليل لا يفحص المقولات وإنما يحشدها بطريقة متنافرة، مع استمراره في خطه العام على وصف الشخصيات اليمنية التي تناولناها في حلقاتنا السابقة ،وتناول مصر عبد الناصر على أنها كانت بيدقا بيد المشروع الأمريكي مثلها مثل السعودية !
لم يكن إنحياز البعثيين في شمال اليمن وتحالفهم مع قوى خمر سببه استغفال واستقطاب الضباط البعثيين ،فالمسألة ليست بهذا التسطيح الذي يذهب إليه الباحث، فحزب البعث عقد في نوفمبر من عام 1963م مؤتمرا في عدن، حضره عن القيادة القومية في دمشق مسعود الشابي ، وقد اتخذ المؤتمر آنذاك “قرارا بتدعيم التحالف مع القبائل والانخراط في المؤتمرات القبلية ” مما يعني أن حزب البعث قد اختار طريق الانقسامات العمودية التقليدية، ونقلها إلى المجال السياسي نكاية بجمال عبد الناصر!
يؤكد الباحث أن حكومة السلال لم تسع إلى إنشاء تنظيم سياسي إلاَّ في عام 1965م.وهذا زعم خاطئ، فالسلال ظل في الإقامة الجبرية بمصر من أكتوبر 1965 إلى أغسطس 1966م،وأما التفكير بإقامة تنظيم سياسي فقد كان مطروحا منذ بداية الثورة، وحين بدأ العزم على تأسيس المؤتمر الثوري في عام 1966 برئاسة السلال وأمينه العام يحيى بهران فقد عقد (المؤتمر الشعبي ) كإطار تنظيمي للنظام في صنعاء من 18-20 يناير 1967،وأعلن عن قيام “الاتحاد الشعبي الثوري” كدرع حصين للثورة ،وتم انتخاب “لجنة دائمة” برئاسة السلال ،وتولى الأستاذ يحيى بهران منصب الأمين العام.
فليس صحيحا ما ذهب إليه الباحث من أن إنشاء التنظيم السياسي تم في عام 1965،مستشهدا ببطاقة عضوية كانت لوالده عبده قحطان طاهر ،برقم 304 وبتاريخ 22نوفمبر 1965،ففي هذا التاريخ كان السلال تحت الإقامة الجبرية في مصر، وكانت البلاد تدار من قبل نائبه حسن العمري!
لم تتحدث مقررات مؤتمر عمران عن ما سماه الباحث :اعتبارهم المؤتمر الشعبي المنبثق عن مؤتمر عمران أعلى سلطة لحكم البلاد.ص315.فلم تتحدث مقررات مؤتمر عمران عن مؤتمر شعبي منبثق عنه ،ويمثل سلطة عليا، وإنما كان ذلك من مقررات مؤتمر خمر ،والذي انبثق عنه مؤتمر شعبي وهيكل تنظيمي يحيل رئاسة الجمهورية والحكومة إلى سلطات تنفيذية لمقررات مؤتمر خمر وميثاقه.
استمر حسن العمري مقربا من القيادة المصرية ،رغم أنه عندما قررت القيادة المصرية إعادة الرئيس عبد الله السلال إلى اليمن من الإقامة الجبرية بمصر ،كان العمري قد انحاز إلى قوى خمر التي منَّتْه بالسلطة ،ووصل رفض قوى خمر لعودة السلال إلى أنهم دبروا لعملية قتله إما بقصف طائرته في الجو، وكان حسن العمري مع قصف الطائرة، أو في طريقه من المطار إلى القيادة وهو ما ذكره القاضي عبد الرحمن الإرياني في مذكراته الجزء الثاني من أن سنان أبو لحوم وآخرين خططوا لتنفيذ ذلك لكنه أعاقهم ومنعهم من التنفيذ!
لكن ذلك الحادث كان عرضيا ولم يؤثر على ثقة القيادة المصرية بحسن العمري ،فعن عام 1968يقول الأستاذ محمد هادي عوض ،في إجابته على استبيان كتاب(الاستقلال والوحدة) للأستاذ يحيى بن حسين العرشي، وقد أنجز الاستبيان عام 1989،لكن الكتاب لم ينشر إلاَّ في عام 2013م-يقول محمد هادي عوض، إنه عند تقديم أوراق اعتماده سفيرا لجمهورية جنوب اليمن الشعبية، يوم 16 أبريل 1968،كأول سفير في مصر “أن أبلغني جمال عبد الناصر رسالة شفوية للرئيس قحطان الشعبي ،قال فيها: “أخبر الأخ قحطان بأن يتعاون مع الفريق حسن العمري في حل المشاكل. صحيح حسن العمري مجنون بعض الشيء ،لكنه جدع”…
يزعم الباحث أن الرئيس عبد الرحمن الإرياني تخلى عن قيادة الدولة أثناء حصار صنعاء” فقد أظهر حصار السبعين يوما طبيعة السياسيين من أتباع القوة الثالثة على حقيقتهم وفضح وطنيتهم الزائفة ،حين فر الرئيس عبد الرحمن الإرياني ورئيس الوزراء محسن العيني ومعهم كبار رجال الدولة بما فيهم العديد من القيادات العليا في الجيش وبعض الوزراء وشيوخ القبائل من صنعاء إما إلى تعز والحديدة أو إلى خارج اليمن. ولم يتبق في صنعاء إلاَّ المجموعة المتشددة من الجمهوريين ممثلة في الشباب الحركيين والبعثيين ،وبعض شيوخ القبائل وتحديدا الشيخ عبدربه العواضي والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، والنفر القليل من بقايا الضباط الأحرار الذين ما زالوا على قيد الحياة، أمثال عبد اللطيف ضيف الله وحمود الجائفي واستدعي حسن العمري الذي كان تحت الإقامة الجبرية في مصر” ص370.
ما اقتبسناه من كتاب الباحث فيه خلط وعدم دقة ،فالقاضي الرئيس عبد الرحمن الإرياني لم يذهب إلى تعز ثم أدار معركة فك الحصار عن صنعاء من طريق الحديدة إلاَّ بقرار جماعي يؤمن الرئاسة وإدارتها للحرب من مكان لا يتعرضون فيه لصواريخ وقذائف الملكيين التي كانت تقصف مدينة صنعاء من على جبالها وضواحيها، ثانيا استقالة محسن العيني كانت لمقتضيات المعركة التي تتطلب حكومة بقيادة عسكرية وليس مدنية ،أي جمع القرار بيد الفريق حينها حسن العمري، ثالثا استمرت الحكومة في صنعاء ولم يفروا، وحين كان حسن مكي وزير الخارجية في لبنان ورفض أن يلتقي مع الملكيين هدده السفير السعودي قائلا: “دعوه يذهب فإنهم سوف يسحلونه في شوارع صنعاء “فاختار العودة إلى صنعاء ليكون مصيره من مصير الثورة والجمهورية…كما يروي ذلك عبد اللطيف ضيف الله في مذكراته المنشورة في 2009- مطابع المستقبل العربي –صنعاء.
رابعا من أسماهم ببقايا الضباط الأحرار لم يصمدوا جميعهم في حصار صنعاء فهناك من فر إلى سوريا مثل حمود بيدر وعبد الله الراعي وحسين المسوري وآخرين.
خامسا كانت عودة عبد اللطيف ضيف الله ومشاركته في الدفاع عن صنعاء ،وقيادته للحملة التي تحركت من الحديدة لفك طريق الحديدة صنعاء، كانت عودته إلى صنعاء بعد شهر من الحصار، وأما بالنسبة للفريق حسن العمري فلم يكن في الإقامة الجبرية بمصر وإنما في السجن الحربي هو وحكومته والأستاذ أحمد النعمان ،فلم يكن في الإقامة الجبرية حينها إلاّ القاضي عبد الرحمن الإرياني والقاضي عبد السلام صبرة ،وقد أطلق سراحه بعد هزيمة 5يونيو 1967بشهرين … وأما بالنسبة لمشايخ طوق صنعاء وعدم وجود دور لمشايخهم في الدفاع الجمهورية أثناء الحصار فقد أغفل الباحث دور الشيخ أحمد المطري وحمود الصبري في فك الحصار عن طريق الحديدة صعاء ،وكان الشيخ أحمد عبد ربه العواضي رأس حربة فك الحصار، وكان حمود الصبري والمطري في قيادة المؤخرة…
لم يتم التخلص من عبد الرقيب عبد الوهاب ورفاقه في أحداث أغسطس ،وإنما تم التخلص من بعض قادة الأسلحة والمدارس العسكرية، فقد تم قنص محمد صالح فرحان ،أثناء أحداث أغسطس حين تم الرمي على قيادة سلاح المشاة، فصعد إلى سطح مبنى قيادة المشاة ليرد على الهجوم، وهناك تم قنصه من بيت الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ،الكائن في باب اليمن داخل سور صنعاء، وتم اختطاف مثنى جبران قائد سلاح المدفعية، ثم بعد أن تم فك الحصار وانتصرت الثورة والجمهورية تم خديعة عبد الرقيب عبد الوهاب ونفيه مع مجموعة ضباط الطرف الثاني في أحداث أغسطس، لكنهم أصحابهم عادوا ،فاضطر عبد الرقيب أن يعود من الجزائر عن طريق عدن ،وحين وصل صنعاء تم سحله بعد أن أعطوه الأمان في قصة سبق أن ذكرتها في العديد من كتاباتي، وبعد ذلك تم اغتيال محمد مهيوب الوحش بكمين عند البنك المركزي الخ…
من الظلم أن نقول كما ذهب إلى ذلك الباحث من أن تصفية الحركيين تمت تحت إشراف الرئيس الإرياني والمجلس الجمهوري .ص333. فزمام الحكم كان بيد مراكز القوى ،الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وحسن العمري وسنان أبو لحوم الخ. ولم يكن الرئيس عبد الرحمن سوى مظلة توافقية، لكن الباحث يترك مراكز القوى النافذة والمنفذة للسحل، ليضع حبل المشنقة والمحاكمة التاريخية حول رقبة الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني !
من المعيب بحثيا أن نسقط في قيعان الهويات الوهمية ،لنتحدث عن خصم زيدي ،فالكفاح الوطني في اليمني لم تكن منطلقاته مذهبية ولا عرقية ولا جهوية، لقد كانت أهدافه وغاياته كمنطلقاته واضحة تهدف إلى التحررمن الاستبداد والاستعمار و إقامة نظام جمهورية عادل،
فالثورة اليمنية وكفاح شعب اليمن كان بحثا عن الانعتاق من الظلم والجهل والجوع والمرض والتمزق، لم تكن ثورة شافعية في مواجهة الزيدية ولا حميرية في مواجهة الهاشمية ولا قحطانية في مواجهة العدنانية، ولا جهوية في مواجهة جهة ومنطقة أخرى ،لقد كانت ثورة لتخليق اليمن الحر الواحد السيد بذاته، ثورة تحررت وأبت أن تسقط في هاوية هذه الثنائيات القاتلة، ولهذا فإن هذه الثنائية التي ظلت حاضرة في شعر محمد محمود الزبيري في رؤيته لترقيع الثنائيات حين قال:
أرضنا حميرية العرق ليست
أرض زيدية ، ولا شافعية
وبنو هاشم عروق كريما
ت لنا من جذورها اليعربية
هذه الثنائية التي أراد الزبيري أن يصهرها بقالب وطني لكنه عجز عن تجاوز أوهام الثنائيات -ولقد كان زيدعلي الوزير موفقا لالتفاتته لهذه الثنائية وتحرر علي عبد العزيز نصر منها،وذلك في كتاب(دراسات في الشعر اليمني القديم -الحديث -والذي طبع بعد أيام من اغتيال شاعر الحرية محمد محمود الزبيري- نجد شاعرا آخر هو علي عبد العزيز نصر في قصيدة له من ديوانه (كفاح شعب) يعبر عن جوهر الكفاح المنطلق من جوهر الإنسان اليمني:
ونحن على أرضنا نخضع
لما هو في جهلنا أفظع
فذاك ابن هاشم
وذا “يعربي” وذلك خادم
شريعة مستهتر
مناهج مستثمر
أضعنا بها شرعة آدمية.
هذا العمق والوضح الذي عبر عنه الشاعر علي عبد العزيز نصر عجز عن أن يواصله في موقفه تجاه مصر عبد الناصر ودورها في اليمن، فبسبب انتماء الشاعر للقوى الثالثة وتعبيره عن موقف بيت الوزير ،توهم أن هتاف الجماهير العربية لجمال عبد الناصر سيدركه الفناء، لكن رؤيته أسقطها التاريخ ،وهتاف الجماهير لجمال عبد الناصر استمر رغم العقود وأزمنة الانكسار…