- محمد ناجي أحمد
يدعي الباحث نقصا في أدبيات حركة القوميين العرب ،مما جعله يواجه صعوبات الكتابة التأسيسية لتاريخ حركة القوميين العرب في اليمن ،ودورها في ثورتي 26سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م، بالرغم من أن أرضيته ومرجعيته النظرية كلها استقاها مما كتب ونشر سواء في تاريخ الحركة مركزيا أو تاريخ الحركة في إقليم اليمن، كذلك تقزيمه لدور مركز الدراسات والبحوث اليمني ودوره في التأريخ والتاريخ للحركة الوطنية اليمنية، والزعم بأن ذلك كان محظورا قبل 2011،وأن الكتابة عن تاريخ الحركة الوطنية بشموله بدأ فيما بعد 2011م زعم ينفيه العديد من الندوات والدراسات والكتب التي صدرت عن مركز الدراسات والبحوث اليمني ، عن بدايات الحركة الوطنية من ثلاثينيات القرن العشرين مع المحلوي والعزب والمطاع والوريث الخ، شاملا من خلال الندوات التي عقدها المركز حركة 1948،وحركة 1955 و1959،و1961ـوثورة 26سبتمبر و14اكتوبر و30 نوفمبر الجلاء والوحدة الخ، وهي جهود توثيقية تشكل مرجعية لكل باحث عن تاريخ الثورة والوحدة…
إن التقصير في توثيق التاريخ يتعلق بالفصائل اليسارية التي تأسست أواخر الستينيات من القرن العشرين، مثل الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ،وحزب العمل ،والطليعة الشعبية فرع الشمال ،والتيار الناصري وصولا إلى الطليعة العربية والطلائع العربية، ذات النهج الناصري ،الخ.
ولعلي أقول أن أهم فصيل في اليسار وهو الحزب الديمقراطي الثوري لم يكتب عنه سوى القليل ،وفي إطار العموميات ،وهو الحزب الذي تأسس في يونيو 1968م، كتحول لحركة القوميين العرب في الشمال إلى النهج الماركسي وفك ارتباطها بالحركة الأم في لبنان ،والتي قد بدأت هي أيضا بالتلاشي إلى أحزاب قطرية ،والرهان على النهج الماركسي ،وانتقادهم للقومية ودور البطل القائد، بعد هزيمة 5يونيو 1967،وتوصيفهم لتلك الهزيمة بأنها جزء من الرهان على ما سموه( الرهان الخاطئ) على البرجوازية الصغيرة، ويقصدون بذلك ليس خصائص الطبقة سياسيا فحسب ولكن جمال عبد الناصر الفرد والدور، والسبب في قصور الكتابة التاريخية عن الحزب الديمقراطي تتحمله القيادة المؤسسة لهذا الحزب، فالقول بالقبضة الأمنية لحكام جمهورية 5نوفمبر ينطبق على أواخر الستينيات وصولا إلى نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين، لكن ماذا عن ما بعد عام 1990م، وقد كان العديد من القيادات المؤسسة أحياء يرزقون ،ورفضوا أن يكتبوا تاريخ الحزب، سواء بمذكرات أو كتب أو بمقابلات صحفية ،مكتفين ببعض المشافهات العابرة، وهو ما ينطبق على جميع الفصائل اليسارية ،القومية والماركسية، في إصرار يدعوا إلى الاستغراب ويدفع إلى التقصي البحثي عن الأسباب !
يصف الباحث قيادة الصف الثاني في الجبهة القومية بقوله” بينما كان التيار اليساري التقدمي بقيادة عبد الفتاح إسماعيل وسالم ربيع علي وعلي عنتر وآخرين جميعهم من الأميين، أو لديهم شهادة التعليم الابتدائي ، ومن ذوي الأفق الفكري الضيق…”ص154.
وهذا التوصيف مجاف للحقيقة فقد كانوا خريجي المرحلة الاعدادية (المتوسطة)ثم التحقوا بالتعليم الفني والزراعي والمعلمين، وغيرها من المعاهد ،،فبخصوص عبد الفتاح فقد انتهى من تعليمه الإعدادي ثم التحق بمدرسة تدريب العمال في شركة مصفاة الزيت البريطانية بعدن، ثم عاملا فنيا في مصفاة عدن، ومدرسا في كلية بلقيس .وتمكن من خلال وعيه الجدلي وامتصاصه المستمر للمعرفة ،ومثاقفاته المستمرة مع المثقفين العرب، من أن يصفه شاعر ومفكر كأدونيس بصفات المثقف العضوي. فقد ثابرت من سماهم الباحث بقيادة الصف الثاني في تثقيف وتنمية معارفهم النظرية والكفاحية ،مما جعل عبد الفتاح إسماعيل في طليعة المثقفين اليساريين سواء في الجبهة القومية أو التنظيم السياسي الموحد أو الحزب الاشتراكي اليمني…
ليس صحيحا ما ذهب إليه الباحث من أن جيش الاتحاد الذي أسسه الاستعمار البريطاني في عدن وكذلك قوات الأمن قد انقلبت ضده وساندت الجبهة القومية في الحرب الأهلية التي نشبت بين جبهة التحرير والجبهة القومية، فالحقيقة هي ما أوردها (علي السلامي) وهو من قيادات الجبهة القومية-في “الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية” التي عقدت في عام 1991،ونشرت في كتاب عام 1993م،والذي أكد فيها إسهام الاستعمار البريطاني ،من خلال مندوبه السامي (همفري تريفليان) وقائد الجيش النظامي (داي)في ان تكون كل السلطة بيد “الجبهة القومية” فعلي السلامي يؤكد في ورقته المقدمة لتلك الندوة “أن المندوب السامي وقائد الجيش البريطاني سابق الذكر ،اجتمع بكبار الضباط في الجيش الاتحادي ،بتاريخ 7/11/1967،أي قبل الجلاء بأسابيع وأبلغهم أن حكومة صاحبة الجلالة قررت أن تسلمكم الاستقلال فاعترض الأخ سالم أحمد العتيقي ،وقال الثوار “أيش مصيرهم؟” تكلم قائد الجيش الاتحادي محمد أحمد موقع ،وقال يا صاحبي هذه مفاجأة ،وانقسم الضباط فتم اجتماع آخر استثني منه سالم أحمد العتيقي ،واستبدل بعبد الله أحمد عتيقي(من أعضاء جبهة التحرير) وفي هذا الاجتماع أبلغ قائد جيش الاتحاد النظامي البريطاني أن على الجيش الاتحادي أن يساند الجبهة القومية ،وأن يعمل على إخراج “جبهة التحرير ” من المنصورة والشيخ عثمان ،بعد أن كانت قد سيطرت على المنطقة من لحج إلى المنصورة . وتمت إقالة الضباط الذين اعترضوا على ذلك ،وكان رأيهم أن الاستقلال ينبغي أن يسلم لجبهة التحرير والجبهة القومية معا.ص201-202-علي السلامي –الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية-1991-مركز الدراسات والبحوث اليمني.
يحيل الباحث فشل قيام الوحدة اليمنية إلى تبني اليسار في الجبهة القومية للقطرية ،وانكفائه في الجنوب وانعزاله عن العالم. وهذا تبسيط مخل ويزيف الحقيقية ،فالجبهة القومية والتنظيم السياسي الموحد والحزب الاشتراكي اليمني كانت أدبياتهم تتحدث عن وحدة شعبية ديمقراطية، وجمهورية 5 نوفمبر كانت تتحدث عن عودة الفرع لأصله، وفق منطق الضم والإلحاق، ولهذا تعذر قيام وحدة شعبية ديمقراطية…
يتحدث القاضي عبد الرحمن الإرياني في مذكراته ،الجزء الثاني-عن لقائه في نوفمبر 1967م للوفد الذاهب إلى جنيف ،للتفاوض على الجلاء، فقد التقاهم في القاهرة بمصر وأراد أن يستشف موقفهم من الوحدة اليمنية ،فبحسب ما يرويه بأن قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف كان موقفهم سلبيا تجاه الوحدة ،وأن موقف عبد الفتاح إسماعيل كان مع الوحدة اليمنية…
يرى الباحث أن اتفاقية الاسكندرية 1966 التي وقع عليها عبد الفتاح إسماعيل ،والتي تنص على دمج الجبهة القومية في جبهة التحرير، كانت ثورة مضادة لثورة 14 أكتوبر قادها عبد الفتاح إسماعيل! فدمج قوى الكفاح المسلح بالنسبة للباحث هو ثورة مضادة يقودها عبد الفتاح إسماعيل ضد ثورة 14 أكتوبر!
إنني أرى أن الموقف الرافض لوحدة أدوات النضال الذي جسده كل من قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف الشعبي حين قادوا الرفض لاتفاقية 13يناير 1966 ثم اتفاقية الاسكندرية 1966م –يتسق مع موقفهما الانكفائي تجاه الوحدة مع الشمال، وفي هذا السياق كانت النقاط التي اشترطها قحطان الشعبي بعد استلامه للحكم في جمهورية اليمن الشعبية –كانت نقاطا انفصالية في جوهرها، وتكريس استدامة الدولتين في الشطرين!
اتساقا مع رأيه التخويني لكل تقارب بين الجبهة القومية ومنظمة التحرير يقول الباحث “رغم إدراك الجبهة القومية أن الدمج يشكل خطرا على وجودها فإن القرارات التي خرج بها مؤتمر جبلة توضح تخلي القيادة الجديدة عن مبادئها حين قبلت الدمج(وهو هنا يقصد قيادة عبد الفتاح إسماعيل) كما توضح تلك القرارات مدى الصراع القائم بين القيادات المؤسسة للجبهة والطموح القوي لدى بعض قيادات الصف الثاني للوصول إلى القيادة العليا بدعم من المخابرات المصرية…”ص224.
وعن دور حركة القوميين في تفجير ثورة 26سبتمبر يزعم الباحث أن التنظيم العسكري السري(تنظيم الضباط الأحرار) الذي تأسس عام 1961م هو التنظيم الوحيد الذي خطط ونفذ ونجح في إحداث الثورة والتغيير وإقامة النظام الجمهوري.ص252.ورغم أن هذا القول صحيح لحظة تفجير الثورة ،لكن جميع القوى المدنية والمشيخية ،سواء التجار والتنظيم الذي كان يقوده عبد الغني مطهر، أو الأحرار ،جميعها كانت على تواصل مع حلقة الاتصال التي مثلها عبد السلام صبرة، وقد انخرطت في الثورة منذ صبيحة يوم الخميس 26سبتمبر 1962م. فقد كانوا على علم ودور في التخطيط ،وإن كان التنفيذ وتحديد ساعة الصفر، وإسقاط النظام الإمامي وإعلان قيام الجمهورية اليمنية وأهداف الثورة،كان من دور تنظيم الضباط الأحرار …
تتسع المواقف السلبية ضد الشخصيات والزعامات لدى الباحث من منظور تحيزي غير علمي، شاملا القاضي عبدالرحمن الإرياني ،واصفا له بالعمالة والارتزاق للسعودية، ويحمله قرار تصفية الحركيين في الشمال، أثناء أحداث أغسطس 1968،ولا أدري لماذا لم يذكر أحداث مارس 1968،والصراع على السلاح السوفيتي الذي وصل إلى ميناء الحديدة، ففجر الصراع بين القوى التي يمثلها القائد العام للقوات المسلحة حسن العمري، والقوى التي يمثلها قائد هيئة الأركان وقوات الصاعقة العقيد عبد الرقيب عبد الوهاب ،فقد تمت ترقيتهم من ملازم إلى عقيد عند تعيينه رئيسا لهيئة الأركان، ومع ذلك ظل كبار الضباط وبأفق طائفي لا يذكرونه إلاَّ بصفته ملازم في مذكراتهم التي طبعوها خلال العقود الماضية وبشكل مكثف خلال العقدين الماضيين…
ينفي الباحث صفة الارتزاق والعمالة للسعودية عن الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، بما في ذلك دوره المساند والمحرض لحسن العمري في تصفية الحركيين ، ويحمل تبعات تلك المرحلة وأحداثها للرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني !
يتحدث الباحث عن وجود اتفاقيات بين القاضي عبد الرحمن الإرياني ورفاقه بالتنسيق مع السعودية للإطاحة بعد ذلك بالحركيين وإخراجهم من السلطة، ولو كان تحدث عن توافق مصالح بين السعودية وقوى خمر للتخلص من الراديكاليين في الصف الجمهوري ،وتقوم السعودية مقابل ذلك بالتخلص من الراديكاليين في الصف الإمامي لكان ذلك مفهوما وفيه منطق مقبول، أما أن يتحدث عن اتفاقيات مع الإرياني فذلك من أهواء الباحث لا من ملموسية الوثائق!
إذا كان الرئيس عبد الرحمن الإرياني عميلا ومرتزقا للسعودية وينفذ تعليماتها، فما الذي يجعلها تتخلص من حكمه ؟
فالباحث يتبنى القول “لا يمكننا إغفال علاقة هاتين الشخصيتين –الإرياني والنعمان- بالمملكة السعودية، وتنفيذ توجهاتها ، وإن كان علاقة الإرياني خفية وغير معلنة –ويغلفها الدهاء السياسي .فقد كانت علاقة النعمان الأقل منه دهاء مكشوفة وواضحة”ص313. يتبنى الباحث مثل هذا القول ،وإن أحال اقتباسه لمذكرات الراعي لكنه اقتباس يعزز فيها الباحث أحكامه القيمية، وإن كنت أرى أن عبد الله الراعي في مذكراته لم يصف الرئيس عبد الرحمن الإرياني بالارتزاق والعمالة !
ليس من الموضوعية الخلط بين توظيف الدور الإقليمي للسعودية في مصلحة أصحاب مشروع(الذاتية اليمنية) وبين استراتيجية وأهداف السعودية في اليمن،فقدكان على مشروع الذاتية اليمنية الأستاذ النعمان والزبيري والقاضي عبد الرحمن الإرياني، وكيف أن السعودية ضاقت بالذات اليمنية التي كان يجسدها الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني، فقد كان استخدامها لدعاة هذا المشروع طيلة صراعها مع مصر من 26سبتمبر1962إلى يونيو 1967م،ومع خروج المصريين من اليمن ،والتسوية اليمنية الملكية عام 1970م بدأ ضيق السعودية بالإرياني محاولة معه أسلوب الترويض ،وحين عجزت أطاحت بحكمه بانقلاب أبيض في 13ينيو 1974م، وهو الانقلاب الذي أعده الشيخ عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم وإخوانه قادة الألوية ومجاهد أبو شوارب، معتقدين بضعف شخصية العقيد إبراهيم الحمدي وتصورهم أنهم قادرون على الإطاحة به متى ما أرادوا…
لقد ضاقت السعودية بالرئيس الإراياني ،وضاق هو بسياسة القضم والهضم التي تنتهجها السعودية تجاه الجغرافيا واليمنية والقرار السياسي والسيادي، لهذا كانت نهايته منفيا في سوريا.
لم تكن سلطة الرئيس عبد الرحمن الإرياني مكتملة النفوذ ،وإنما كان مظلة لقوى خمر ،وحين ضاق بهم وضاقوا به تمت الإطاحة به والنفي…
لم يكن موقف القاضي عبد الرحمن الإرياني منحازا لأمين نعمان الرافض لإزاحته عن قيادة محافظة تعز، حين أصدر حسن العمري قرارا بعزله وتعيين مطيع دماج، عام 1965م
بل كان ضد الاصطفاف المناطقي الذي كان وراءه بحسب مذكرات الإرياني في جزئها الثاني-القيادة العربية بتعز، وإن كان تهديد حسن العمري بالتحرك العسكري للقضاء على التمرد هو من وجهة نظري الذي سيعزز التوجهات المناطقية الانعزالية والانفصالية ،لولا اللغة الصارمة والحازمة للقيادة العربية وإعلانها بأنها ستستخدم القوة العسكرية لإيقاف أي تحرك عسكري يأمر به العمري.
وحين نقف مع لغة الباحث وعباراته بخصوص هذا الحدث نجد الحس المناطقي المجافي للغة البحث العلمي بارزة “وبدأت محاولاتهم (وقوى الثورة المضادة في الكتاب، يأتي على رأسها بحسب رأي الباحث عبد الرحمن الإرياني وأحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري )لفصل تعز عام 1965 عندما قام حسن العمري الذي تولى منصب نائب رئيس الجمهورية بعزل محافظ تعز أمين نعمان والذي هو من أبناء المحافظة، وتعيين مطيع دماج محافظا لتعز بينما هو من أبناء قبيلة بكيل. فقام المحافظ المعزول والمرتبط بحركة المعارضة بالتحريض المناطقي ضد المحافظ الجديد مستغلا التواجد الكثيف لرجال المعارضة في تعز بقيادة عبد الرحمن الإرياني وأحمد نعمان”ص324.
يخطئ الباحث في تاريخ هذه الحادثة ويؤرخها بعام 1965،والصحيح أنها حدثت عام 1964،وقد كان القاضي عبد الرحمن الإرياني مؤيدا لعزل أمين نعمان طالما استثارها طائفيا، ومع تعيين الشيخ مطيع دماج.(ص 193-194-مذكرات الرئيس عبد الرحمن بن يحيى الإرياني-الجزء الثاني-ط1-مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب -2013.