- كتب: طارق السكري
إيوهْ على عينك قصيدة للشاعر الكبير / أبو بكر حسين المحضارْ غناها الفنان الكبير / أبو بكر سالم بالفقيه رحمة الله عليهم جميعاً
قصيدة جميلة كسائر أغاني أبو بكر لكني هذه المرة شعرت أن وراءها قصة ! فهي تبدأ بتحدي فيقول : ” على عينك وعين الحاسد الواشي “
هكذا منذ مطلع القصيدة !
لماذا ؟ لماذا يستهل شاعر قصيدته بهذا العنفوان ؟
من هو هذا الذي يتوجَّه إليه الشاعر بهذا الاستهلالْ ؟ هل يمكن لأغنية تتوجه إلى الجمهور .. أغنية ذات طابع غزلي فيستهل الشاعر القصيدة ” إيوه على عينكْ ” ؟!
إن في كل كلمة .. في كل جملة .. تشعر أن وراءها روحا غاضبة وصرخة في وجه .. ربما في وجه مسؤول سياسي ما !
فهي تحكي عن شخصية يمكن أن نقول عنها شخصية انتهازية .. لها علاقة قديمة مع الشاعر غير أنها تغيرت بتغير الظروف السياسية ، فلم تراعِ الود والعِشرةْ !
الودُّ المتكلَّف والحب المتصنع .. دم ثقيل وظل يقطع النفس .. وحالة من حالات الأمراض الخلقية الاجتماعية الوراثية .. الذي تشوهت في روحه قيم الجمال وتشوهت في ذهنه معايير الفضيلة فهو يرى التّمرةَ جَمْرة ، والتُّلوُّنْ تفنُّنْ ، والفذلكَة برَكَة .
هذا الذي عصفت به الحياة ورمت به في كل اتجاه .. لكنّها نجحت في اختراقه فأفقدته الإرادة والعزيمة فجعلته رخواً هشِّاً قابلاً للبيع .. لقد حولته إلى مسخْ !
يتكبّر على الناس ويعدّ ذلك شرفاً .. يعادي من يحب ، ويوالي من يكره .. فإذا وافته الظروف بما يهوى فتقلد منصباً جعل من الفُدم شعراء ، ومن الصعاليك أهل فتوى !!
بينما الشدائدُ لا تزيد الحرَّ إلا صلابة وقوة وخبرة وحكمة .
لكن هذه المعايير ضد سنن الطبيعة فالحق لا تقدر قوى الدنيا على حجبه والضعيف لا يظل ضعيفا إلى الأبد متى ما كانت لديه عزيمة ورؤية ، وكثيرا ما يعز الله الذليل ويذل القوي ويرفع من خفَّضته أيادي الآثمين ، ويخفّض من رفّعته الأضواءْ .
عَلَى عِينكْ وعِين الحاسد الواشي معاك .. ايوهْ على عينكْ
أنا مازلت من فوق الثريا والسِّماك .. ولا اعرفكْ وينكْ
عجَبْ !
مالي أراك تعادينا بلاحجهْ وتظهرْ لي جفاك .. ذا ايش اللي جَاك ؟
واللي ماعزّ نفسه في الهوى سيبه .. ولا تِسقيه مِن مَاك
يصح في شرع من ترمي بن آدم مارماك .. هذا غلط منّك
تظن الأرض أرضكْ والسما قدها سماك ؟ .. خابْ اِنْقطع ظنّك
تجاهدْ في خَلاك عسى إنَّك بهذا الجُهدْ تِتجمّلْ عساكْ .. أو تبلغ مناك
و اللي ماعزّ نفسُهْ في الهوى سِيبُه .. ولا تسقيه من ماك
مصيبهْ عند ماتطردْ قفى اللي مايباك .. لي ماعرفْ وزنكْ
أمام الناس يضحكْ لكْ وعينه في سواكْ .. مقصدهْ في شطنك
و في ساعهْ رماكْ ! كأنه ماعرفْ ودّك ولم يعرف هواك .. في الوقت هذاكْ
و اللي ماعزّ نفسُهْ في الهوى سِيبُه .. ولا تسقيه من ماك
و من حبّك وأخلص في المحبه مانساك .. دايم يسأل عنك
اذا ماجيت له في ساعة الحاجه اتاك .. وان شِي مَطر كَنّك
يدور عارضاك ولا يبخل بشي كل ماطلبته قال هاك .. وأكرمك وعطاك
و اللي ماعز نفسه في الهوى سيبه .. ولا تسقيه من ماك
عندما ذهبت إلى اليوتيوب وجدت الأغنية وفي أسفل صندوق التعليقات وجدت قصة هذه الأغنية أرويها لكم :
قصة هذه الأغنية .. أن الفنان / سعيد عبدالنعيم صديق المحضار سُجن بعد الثورة في قضية ما … فتوسط له الشاعر المحضار ليخرجه من السجن ، فذهب المحضار عند مسؤول المديرية ومساعده في منطقته المكلا آنذاك لكن المسؤول لم يحترم المحضار ولم يحترم مكانته ووزنه وتعالى عليه بغرور ، فغضب المحضار ورذهب إلى مركز المحافظة بالمكلا فرحبوا به أجمل الترحاب وأحضر ورقة الإفراج فأفرجوا عن صديقه رغما عنهم … فقال هذه القصيدة .
على عينك وعين الحاسد الواشي معاك .. ايوه على عينك
أنا مازلت من فوق الثريا والسِّماك .. ولا اعرفك وينك
عجَبْ ! مالي اراك تعادينا بلاحجه و تظهر لي جفاك .. ذا ايش اللي جَاك ؟
واللي ماعز نفسه في الهوى سيبه .. ولا تِسقيه مِن مَاك
يقول أحد المعلقين والذي روى هذه القصة : ” أنا سمعتها شخصيا من واحد شايب حكاها لخالي ونا كنت بجنبه …. والله أعلم “
على كل حال .. عليَّ أن أعترف لكم أني أصدِّق هذه الرواية .. لأن الذي يميز الشاعر المحضار أنه شاعر موقف .. شاعر حدث .. شاعر ارتجال .. نعم أجزم تماما أنه شاعر ارتجالْ .. الشعر يجري على لسانه كالماء يجري في الساقية بلا تكلف ولا عناء
لا يدخل مطعم أو فندق أو جلسة على بحر أو سمرة مع الأصدقاء في البَرّ فيحدث له موقف أو يرى شيئاً فيخترق مشاعره إلا وحضر شيطانه بالشعر ! حقيقة هذه سمة بارزة في شعره .. فهو ليس شعر منعزل عن الناس بل شعر معجون بالصخب والصدام والحياة والجمال وسائر شؤون النفس الإنسانية المختلفة .
إن جمال القصيدة هو الذي يبرز جمال روح الشاعر .. فتتجاوز بنا الشكل الخارجي وتنفذ إلى الأعماق .. إلى روح الطفل الشفافة .. المشاغبة حينا .. الظريفة الطبع .. العالية الحسّ .
لقد كشفت لنا هذه القصيدة أهمية الأدب الاجتماعي.. الشاعر الذي يمدح الوفاء ويذم الخيانة .. يمدح التواضع ويذم التكبّر .. يقف إلى الأصدقاء في محنهم فيتوسط ويُجابر ويساعد ويعين .. هذه الروح التي ما إن تحضر في مكان إلا ويجعل الله لها ملائكة تنشر البهجة والحب والعطر .
ولا يفوتنا أيضا أن نشير بافتتان إلى أداء الفنان الراحل أبو بكر سالم بالفقيه في هذه الأغنية بالذات .. في اختياره مقام النهاوند للحن الأغنية حسب خبرتي المتواضعة .. المقام الموسيقي الذي يناسب الجو العاطفي الذي كان عليه الشاعر ، فهو ليس مقاما طربيا كمقام الرّست وهو اختيار موفق .
أيضاً في اختياره وهو يغني للوقوف على بعض الكلمات وتأديتها بطريقة تجعلنا نشعر من خلال تصويره الصوتي أنه يريد أن يبرز لنا معاني الكلمات بصورة واضحة لتحقق القصيدة غرضها من التأثير والإقناع ، فتجْمُل صورة الوفاء والعزة في أعماقنا وتقْبُح صورة الجحود والتكبر كذلك .
نحن في اليمن .. سعداء جداً بهذا المزيج الرائع بين الشاعر والفنان .. هذا التوافق النفسي والفكري حتى لكأنهما يصدران عن شخصية عبقرية واحدة .
مدرسة فنية متجددة تجاوزت القديم واستوعبت الحاضر وانتقلت به إلى المستقبل .. هَرَمَان من أهرام الأدب الغنائي اليمني لأرواحهما الخلود والنعيم .
- ماليزيا 21 يناير 2020