- د. أحمد حمود المخلافي
كان الوطن في العصور القديمة عموماً، وفقاً لـ (أنصار المذهب الفيزيوقراطي) حكراً على طبقة الإقطاع وكبار الملاك العقاريين، كونهم الوحيدون الذين يملكون وطناً، أي أرض مزروعة لها حدود وملامح أو عقارات ذات وجود على الأرض، وبالتالي لا يحق أن يحكم الدولة سواهم.
أما التجار وفقاً لهذه الرؤية، فإنهم قوماً بلا وطن، وغرباء على المدينة فيه، ولا انتماء لهم سوي المال، كسبه وجمعه. وفي تقديرهم هذا يصبح التجار ضيوف على الوطن، ومن ثم ليسوا مؤهلين لإدارة شؤون الدولة، فهم غير مؤتمنين على ما ليس ملكاً لهم.. وبالنسبة لبقية الطبقات والشرائح الاجتماعية فوجودهم ضروري لخدمة الوطن والدولة.
وفي العصر الحديث اصبحت الدولة هي الوسيط بين الوطن والمواطن، أي هي المسؤول عن ضمان الحدود الجغرافية والحقوق السياسية ومتابعة الواجبات.
الوطن.. تنوع وتطور المفهوم:
- الوطن قاموسياً: هو الموطن والمنشأ الذي يستوطنه الإنسان.
- الوطن فيزيقياً: هو ذلك المكان المحدد أو تلك البقعة الجغرافية المعلومة والموضحة الحدود، أو تلك البيئة التي يعيش فيها الإنسان معتمداً على قدراته في تطويع وتسخير مواردها الطبيعية لصالحه.
- الوطن فلسفياً: هو اختيار طوعي لمجموعة من البشر بغية العيش سوياً، وفق منظومة استنبطت عبر أفكار وفلسفات وديانات وخبرات سابقة، بهدف الحفاظ على الحياة، وديمومة استقرارها.
- الوطن سيكولوجياً: هو “ذات الإنسان” حينما تتحول بفعل الاجتماع البشري إلى الـ”نحن”، أو هو “الذات” حينما تصبح بفعل العمل الإنساني “موضوع”.. فأنت حينما تقول: إنني أدعم الوطن.. فإنك تعني في الحقيقة أنك تدعم ذاتك بوصفها تعمل لأجل ذاتيتها بشروط موضوعها.. أي بوصفك جزء من جماعة بشرية تسعي لأن تكون جماعة إنسانية وفقاً لمتطلبات التطور الحضاري الراهن.. أي بوصفك مواطناً.. معززاً الإحساس بالكرامة.. ومتسلحاً بدافع الشعور بالوطنية والانتماء والهوية.. ومتحصنا بالأمن، بمفهومه الشامل، أمن العيش والعقيدة والحرية والعدالة والمساواة، الخ.
5 الوطن معرفياً: هو قيمة معرفية تكونت عبر تطور الحضارة الإنسانية من نواة وحيدة وواحدة هي مفهوم “المواطن”.. فمن الواقع الحي نشأ المعنى.. ولأجله يعمل.. فكل انتقاص من قيم المواطنة هو تهديد لركائز الوطن.. وكل إعلاء لها يعني بالضرورة الارتقاء بمفاهيم العقل الجمعي وترسيخ أمن الوطن ووحدته واستقراره. - الوطن سوسيولوجياً: هو ذلك الاختيار الطوعي للمكان، من أجل العيش المشترك، من خلال إقامة منظومة متكاملة من العلاقات الاجتماعية، والإنتاج والتوزيع المشترك لخيرات الأرض.. المؤسسة على عقد اجتماعي، يصير الفرد بموجبه شخصاً مدنياً له حقوق يضمنها المجتمع بكل أنواعها (الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية)، وعليه واجبات يؤديها للمجتمع، وأهمها الذود عن استقلال الوطن وسيادته، والعمل على ترسيخ أمنه الوطني وتقدمه الاجتماعي.
- الوطن قيمياً: هو مجموع القيم التي تتولد لدي الإنسان في سياق تطوره الذاتي والعلاقة بينه وبين المواطن، القائمة على مبادئ الولاء والتشكل الهوياتي والانتماء.. وانطلاقاً من هذا المفهوم، فإن الوطن يحمل ثلاث دلالات.. أولها، متصل بالعقل الفردي، ويشير إلى أن الوطن هو مكان إقامة الإنسان ومقره، وإليه انتماؤه سواء ولد فيه أو لم يولد.. وثانيها، متصل بالعقل الجمعي، يشير غالباً، إلى أنه موقع ولدت ونشأت فيه الجماعة.. وعادة ما يكون موضحاً بمعالم جغرافية محددة.. وثالثها، مستقل، يرى أن الوطن هو ذلك المكان الذي أشعر فيه بالأمان من جميع النواحي، أو هو المكان الذي يكون فيه معاشي وتحفظ فيه كرامتي.. وهكذا أصبحنا أمام حالة حداثية ثلاثية الابعاد (المواطن، الوطن، والوطنية)، عرفت بـ “مثلث الانتماء الوطني”.
المواطنة.. تطور الفكره:
بدأت ملامح المواطنة، بصورتها المدنية، مع نشأة الدولة الحديثة في أوروبا ابتداء من القرن (16).. بعد أن أصبحت الدولة هي وطن، وليس الامبراطورية أو الدين أو العرق.. وقدم فلاسفة السياسة كـ(هيوم، لوك، فولتير، منتسكيو، روسو، وفيكو) أفكاراً مدنية ابداعية غير مسبوقة في ترسيخ قيم الفردانية، والنزعة الإنسانية، ومنظومة الحقوق الطبيعية، وتأطير علاقة الفرد بالقانون والسلطة والدولة.
وبالتالي كانت تلك الافكار هي المرشد السياسي للدولة الحديثة في القرون الأربعة التالية.. وبناء عليها تأسست “المواطنة” كفكرة، وتبلورت كمفهوم، بوصفها حق الفرد في التمتع القانوني بخيرات بلده، وحقه في ضمان كافة الحقوق الإنسانية المكتسبة، في مقابل تنازل طوعي عن جزء من حريته لصالح المجتمع، وجزء من ماله كضريبة لدعم الدولة، وجزء من عمره للدفاع عن الوطن.
الوطنية:
الوطنية كمفهوم، ترتبط بالولاء الوطني.. وكمصطلح، تشير إلى تلك المشاعر الإيجابية تجاه الوطن..
فمثلاً، عندما نقول: “فلان وطني”.. فإنه يعني أن أحاسيسه تجاه الوطن تفيض حباً وولاءً واعتزازاً.
وتاريخياً.. كان الولاء، في العصور الوسطى، مرتبطاً بالدين والمذهب السياسي.. وصار، في العصر الحديث، مرتبطاً بالوطن (الدولة والدستور والقانون العام).
الوطن وأمن واستقرار المواطن:
بما أن الوطن هو مجموع القيم التي تتولد لدي الانسان في علاقته بوطنه والتي تتأسس على مبدئي الولاء والتشكل الهوياتي، والانتماء.
فإن الأمن يشير إلى تأمين الإنسان، حياته، مصادر عيشه، حرية رأيه وفكره وعقيدته.. وضمان حقوق المواطنة في العدالة والمساواة والكرامة..
ومن هنا فإن الانتماء: يرتبط بحاجة الإنسان الضرورية له، لكي يقهر عزلته وغربته ووحدته، ويؤكد علي هويته.. وتعمل الهوية على تثبت الانتماء، وتكشف عنه، وتدل على وجوده.
ولكن، عندما يكون الانتماء بعيداً عن الهوية.. فما الذي يحدث؟
يصبح انتماءً مزيفاً أو مشوهاً للهوية.. ومن هذا المنطلق، تسعى بعض الأنظمة السياسية، خاصة المستبدة منها، إلى الربط بين مفهومي الانتماء والهوية من جهة، وبينهما وبين الوطن من جهة أخرى، بهدف تحويل الانتماء للوطن إلى انتماء لها، بوصفها هي الوطن أو الرمز المعبر عنه.. هنا يحدث تحويل زائف في الهوية، فيتحول الفرد غير الواعِ تدريجياً من الولاء والانتماء للوطن بوصفه حالة فوقية، إلى الانتماء للنظام السياسي باعتباره الوصي على الوطن ورمزه والناطق باسمه!!.