- ضياف البراق
ها أنذا أقرأ أعماله الكاملة للمرة الثانية، أغرق فيها حتى التلاشي، ولا أُريدُ الخروج من أمواهها العذبة اللذيذة. بالطبع وديع سعادة واحد من أعذب شعراء لبنان وأكثرهم إدهاشًا. إنّ ما يكتبه من نثر، هو في الحقيقةِ، شِعرٌ صافٍ غنيٌّ بالجمال مثير للدهشة. إنه يكتب قصيدة النثر بأسلوب استثنائي خطير، تتفجّر فيه اللغة متجاوِزةً القديم والمألوف والرتابة واللغو. قصيدته هي النص المفتوح الذي نجِدُ فيه جميعَ الألوان والأسرار والانفعالات ممزوجةً بنزيف الحياة. إنه يكتب علاجًا جديدًا لوجع لحياة، ينقشُ حُلمًا مُضيئًا على صخرة الظلام، يثقب ثغرةً للأمل في أبديّة اليأس، يتحرر بالشعر من قبضة التاريخ المؤدي إلى الهاوية.
لا يخلو شعره من نزعة صوفية حُرّة، لا يخلو من موسيقى الينابيع الصافية المتدفقة.. لا يخلو من غيوم وأمطار وعصافير وأغصان وآلام وأسئلة وأصوات غريبة.. لا يخلو من غُبَارِ النوم وريحِ اليقظة وقَلقِ الرؤية.. ولا يخلو من نقاء لبنان العريق.
كلماته هي دموعه الصادقة، وخطواته القَلِقَة في الطرقات والأحلام، وتمزُّقاته الداخلية بين وجود الموت وعدم الحياة، وارتحالاته من مكان إلى مكان، ومن عاصفة إلى عاصفة، وهي هذياناته الفلسفية الذكية الساخرة من كل هذا الذي يحدث لنا كلَّ يومٍ، ونراهُ أمامنا ومن حولنا دائمًا.
ما زال وديع في العاصفة، يكتب من داخلها، يفتّش فيها عن مَنفذٍ لقلبه المجنون بالحرية، أو عن شَمعةِ فرحٍ لا تذوب في ليلة واحدة. لا حياة خارج العاصفة، ولا قصيدة بمعزل عن الألم. لا طرقات حقيقية أمامك سوى الكلمات، لكنك تقول “لا حياة بالكلمات”، يا أنتَ الذي “وضعَ الطريقَ في صدره ومشى عليها طوال العمر”.
عندما أقرأ نصوصَه المفتوحة، أشعر بأنني مجنون ضاع زمنًا طويلًا في المدينة، ويعود الآن وحيدًا، مشيًا على قدميه تحت المطر الخفيف، قاصدًا قريته البعيدة الخضراء الهادئة. وأصير طفلًا يفتح النافذة ويطل منها في فرحٍ شديد ليشاهدَ القمرَ الذي سقط للتو في الشارع. وأصير غيمةً من تلك الغيوم الحقيقية التي نشاهدها أحيانًا شاردةً فوق قِمَم الطبيعة الخلّابة.
وعندما يقول عقل العويط: “اقرأوا وديع سعادة، لكن احذروه في الآن نفسه، لأنه مليء بالفخاخ”، فإنه لا يكذب ولا يجامِل، وإنما يقول الحقيقة بعينها. والعويط يُسمّي شِعرية سعادة بأنها ” شعريّة النبع، جوهريّة، بديهيّة، بسيطة”. وهذه تسمية في محلها.
هذا شاعر له عالمه الخاص به، في الحياة والكتابة، في استراليا ولبنان، في الواقع والحلم، وفي كل شيء. شاعر يحاور الطبيعة باستمرار، يغوص فيها إلى أعمق مدى، يعانق أشياءها وكائناتها، لاهثًا شغوفًا وراء أصواتها الخفية العميقة، مُعبِّرًا عن آلامها بلغة مجنونة ساحرة مكثّفة، هي لغته النظيفة دومًا، تلك التي لا تكرِّر نفسها، تلك المفعمة بالحيوية والحداثة، تلك المُتجدِّدة المتصلة بعذابات العالم وأسراره.. نَعمْ، إنها لغته السهلة الممتنعة، الاقتحامية الاستكشافية الباهِرة، التي تُسْكرني بما تحويه من جمال وجنون، وتهزّني من جميع أعماقي.
وذو الثقافة الشعرية التقليدية والذائقة البليدة، سيقرأ وديع سعادة ويقول بسذاجة: هذا ليس شعرًا. ونحن نقول له: بل هو الشعر بعينه. شِعرُهُ خلّابٌ، مؤلِمٌ ومُبهِجٌ في آن، يتناول روحك ويخفيها عنك بكل بساطة وحرية.
وأهم ما في شعره أنه لا يخلو من عنصر مُهِم جدًا: الدهشة. قرأتُ في كتاب ” لِمَ الفلسفة؟” للدكتور المصري عبد الغفار مكاوي، ما يعني أنه بدون الاندهاش يستحيل التفلسف. والذي يعرف لا يندهش. ولذلك كان سقراط، أبو الدهشة، يعرف أنه لا يعرف. والله لا يندهش لأنه لا يفتقر إلى علم أو وجود (مكاوي). والحيوان لا يندهش لأن نفسه الحسية لا يقلقها السعي إلى معرفة الأسباب (مكاوي). والاندهاش عند توماس الأكويني، يقول مكاوي، هو الشوق إلى المعرفة. وفي الفيلسوف شيء من الشاعر والطفل، وإن اختلف عنهما في طريقة تعبيره عما يدهشه (مكاوي). وإذَنْ، فالاندهاش هو أصل التفلسف. وهو كذلك بالنسبة إلى الشعر. ولكَمْ يُدهشني وديع سعادة!
من شمال لبنان، في قرية شبطين، أشرقَ شاعرُنَا على الحياة والعالَم معًا. وفي شَبطين، قريته الطيّبة، انكسرتْ زجاجةُ العالَمِ في يدِ الشاعرِ، حسب تعبيره المُدهِش. وُلد ليكون شاعرًا مُختلِفًا، وكان. هو الهارب من قلَق الحياة إلى الشعر الأشد قلَقًا. وبين القلقين يغرق تاَرةً، وتارةً ينهض. وهو، في التارَتَيْن، إنما يُقلِقُ الأشياءَ المنطفئة، ليوقِظَها ويُضيئها، يتألم ويكافح لينتشلَ الحياة من كابوسيّتها المُرعِبَة، ليغرسَ غصنًا طريًا مكانَ اللغم القديم. لكنَّ القلقَ ليس وحده من يخلق كلمات الشاعر ويفجّر روحَه، ويدفع خطواته نحو البحث عن حياة أقل بؤسًا. والشاعر طائرٌ ثوريٌّ فلسفيٌّ لا يتوقف عن التحليق النبيل في الأعالي، اِحتجاجٌ جماليٌّ فريد يصرخ بالرفض في وجه الواقع القبيح، ويَبثُّ نبضاتَه وأنوارَه إلى كل مكان.
هنالك وردة حزينة من نوع خاص تنبت داخل روح الشاعر فقط، وتنمو هناك إلى الأبد، ومنها تُستخلَص العذوبةُ الخالصة التي يُكتَبُ بها الشعر الحقيقي. ومزاجُ الشاعرِ في حركةٍ مائجةٍ متقلّبةٍ على الدوام، مثل حالة أي بحر. والشاعر بحرٌ طبيعي لكنه غير مالح، وأكثر صفاءً من السماء.
تقول لي يا وديع سعادة:
“ارمِ السماءَ
وضعِ الأرضَ في قلبك”.
لقد فعلتُها أمس، وعانقتُك أنتَ، لأنك الأرض كلها.
خُذْ يا وديع هذا العِناقَ اليمني الصادق: أُحبّك شاعرًا وإنسانًا وصديقًا قد ألتقيه يومًا وأبتسمُ لعينيه حتى يذوب قلبي.