- بقلم: د. قاسم المحبشي

كيف يعيش الناس في المدينة؟ وماذا تخفيه تلك الأضواء والأبنية الشاهقة؟ وما طبيعة العلاقات والروابط التي يجدون ذواتهم في شباكها من الآخرين؟ فالمدينة موطن الغرباء وملاذهم، إذ يمكنهم ممارسة حياتهم بعيدًا عن أنظار أقاربهم. هنا لا أحد يعرفهم، ويمكنهم التعبير عن كل ما يجول بأنفسهم وممارسة حياتهم ورغباتهم بكل حرية بعيدًا عن أعين أقاربهم.
الرواية بنت المدينة ومرآتها، فلا يوجد شكل من أشكال التعبير وأساليب التمثّل والتمثيل أقدر على رصد وتوثيق حياة المدنية وناسها من الرواية، إذ يشتبكان في علاقة شديدة التداخل والتعقيد، حيث تتقد الحياة بكل صخبها وتدفقها الفوري المباشر بلا ماضٍ ولا مستقبل في عالم اللحظة الحاضرة الراهنة المحتدم.
عالم الحياة وتدفقها بملموسيتها وكليتها، أي الحياة اليومية البسيطة المملوءة بالانشغالات الروتينية والمتطلبات المعيشية الملحّة الصغيرة التي تستغرق الكائن الساعي إلى إشباع حاجاته بمختلف الوسائل والسبل والحيل، والتقنيات، والعادات والتقاليد، والأساليب والصراعات، والرهانات والتفاعلات، والنجاحات والإخفاقات، والمكاسب، وكل أنماط العلاقات والممارسات اليومية التي ترهقنا وتشكل عصب الجسد الاجتماعي برمّته.
أي الحياة بلا مزايا، التي يسمّيها عالم الاجتماع جيلبر دوران بـ«الجو الخانق»؛ تلك اللحظة الحاضرة سيالة ولا يمكن إيقافها، وبقدر ما نعيشها في كامل امتلائها. المدينة بتداخل علاقاتها وتشابك مؤسساتها وثقافة سكانها ليست مجرد خلفية للأحداث أو مسرحها، بل هي روح تنبض بتفاعلات الحياة الجديدة، وتؤثر في الشخصيات وتشكل مساراتها.
بحسب جورج لوكاش في نظرية الرواية، وحينما تكون المدينة بيروت ذاتها، مدينة الفكر والثقافة والأناقة والفن والجمال والحب والحرب والتجارة والتنافس والصراع والضياع والمقاومة والأمل… إلخ، فهي مسرح الأحداث والشخوص. وحينما تكون الكاتبة هي بنت المدينة وحارسة نبضها الأصيل، يكون للرؤية قيمة ومعنى.
رواية «سلطان وبغايا» رواية تحبس الأنفاس. عنوانها لا يوحي أبدًا بأن كاتبتها امرأة، إذ ينطوي العنوان على شحنة ذكورية عالية، فـ«سلطان» ليس مجرد اسم لشخص، بل تجسيد لفكرة السلطة البطريركية المتوحشة التي تُغوي، وتشتري، وتُهين. أما «البغايا» فهنّ المرايا التي تعكس سقوط القيم، لا بوصفهن أدوات إثارة، بل رموزًا للاغتصاب العام للأخلاق والكرامة.
الجسد هنا ليس جسد المرأة فحسب، بل جسد الوطن المنتهك، جسد الحقيقة المسلوبة، وجسد الإنسان الذي حوّلته الرأسمالية إلى سلعة. تُذكّر الرواية بجدلية الجسد والسلطة عند ميشيل فوكو. اختفاء «سلطان» في بداية الرواية ليس حدثًا بوليسيًا فحسب، بل رمز لفقدان المعنى في عالم تحكمه الصور والفضائح. وسعي ابنة أخيه (زهية) إلى البحث عنه يمكن قراءته كتعبير عن بحث الإنسان المعاصر عن حقيقة وسط ضجيج الإعلام والمال.
الرواية كاشفة لحقيقة الأنظمة العربية الذكورية التي تجعل من شخص «سلطان» لم يتحرر من الأمية الأبجدية، وكل مؤهلاته أنه ذكر وسيم فقط، ولا يجد إلا سواقة السيارة في النهار والقوادة في الليل. بطل الرواية سلطان زعتر الذي ضاع في قاع المدينة الصاخبة منذ مطلع شبابه حتى السبعين من عمره، لم يجد غير الريف ملاذه الأخير للبحث عن الهدوء والسكينة.
هكذا تحضر المدينة بوصفها مسرحًا لأحداث الرواية: الجامعات، الميناء، التجارة، الأسواق، المسارح، دور السينما، المقاهي، البارات، شارع الحمراء، النساء، القصور الفارهة، الليالي الصاخبة، الصفقات، المؤامرات، العلاقات، الرغبات، والحاجات. كل شيء يخطر على البال.
هنا تحضر المرأة بكثافة بوصفها مدار حياة سلطان زعتر. أكثر من 14 امرأة في حياة سلطان، ابتدأت من أمه التي تركت والده وهربت مع عشيقها – وهو ما زال طفلًا – وما كان لهذا الفعل الطائش من أثر عميق في نفسه، وانتهاء بزوجة صديقه المزارع التي استقبلته في ضيعتها الجبلية، ملاذه الأخير، حيث الهواء النقي والعصافير والطبيعة الخلابة وثمارها الطيبة، قبل أن يموت بلسعات النحل.
صورة المرأة في الرواية تحتمل مستويات من التأويل، منها أنها محور كل حياة ممكنة؛ فلا حياة بدون النساء، فالمرأة هي وطن الأوطان كلها، أول منازل الكينونة المشمول بالأمن والأمان والرعاية والرضاعة والحب والحنان، والحبيبة الحضن الدافئ والسكن الحميم، ثاني منازل الحب والإشباع والاستقرار والإنجاب.
هذا فضلًا عن مكانتها المحورية في تشكيل العائلة والبيت والمنزل، وما لكل ذلك من دلالات اجتماعية وسيكولوجية. فالتفكير بالمرأة هو التفكير بالكائن الإنساني الحقيقي جدًا: الأم، الزوجة، الأخت، البنت، العائلة، المجتمع، المؤسسة، الوطن، الدولة، الرعاية، التربية، الحب، الحنان، السعادة، التسامح، الأمل، الحاضر، والمستقبل.
إذ كلنا وُلدنا من أرحامهن، ورضعنا حليبهن، وتربينا في أحضانهن، وتعلمنا برعايتهن، وعرفنا لذة الحياة بهن. ومعظم أحلامنا بهن، ونعيش من أجلهن، ونفرح بنظرة واحدة منهن، ونسعد بابتسامة واحدة من أعينهن، ونكتب أجمل قصائدنا من وحيهن وفيهن ومن أجلهن، ونستمد ثقتنا بذواتنا منهن، ونشعر بالسكينة والأمن والأمان معهن، ونتمنى رضاهن، والجنة تحت أقدامهن. ومع ذلك، ما زال بيننا من يحتقرهن ويظن نفسه أفضل منهن.
هدى عيد في هذه الرواية كشفت حقيقة الهيمنة الذكورية في المجتمعات العربية، في التعامل مع المرأة وأساليب قهرها بالقوة الفجة.
في هذه الرواية، يتجلى المكان – الحي، المدينة، البيت، المقهى، السوق، الأزقة، وحتى الغرف المظلمة – ككائن حيّ يراقب الإنسان ويعيد تشكيل مصيره. إنه ليس مجرد فضاء للسرد، بل محرّك للوعي ومصدر للتوتر الجمالي والرمزي.
الزمان، بدوره، لا يجري على نحو خطّي؛ إنه يتداخل ويتقاطع، كأنه ذاكرة جمعية مشروخة تتناوب فيها الفصول والأيام والليالي على قياس نبض المعاناة والحنين. الشخصيات في «سلطان وبغايا» لا تتكوّن من اللحم والدم فحسب، بقدر ما تتكوّن من نسيج المكان ودفء اللحظات الحميمة: من الضوء والظل، من رائحة الأزقة وأصوات المارة، من الموسيقى الخفية التي تعزفها الأمكنة حين يسكنها الألم والرجاء معًا.
تلك التفاصيل الصغيرة – صوت المطر على السقف، أو نظرة عابرة في مرآة الزمن، أو غناء بعيد في حانة منسية – تتحول في الرواية إلى علامات دالة على انكسار الذات، وإلى استعارات عن هشاشة الإنسان في مواجهة السلطة، الزمن، والعزلة. وهنا تكمن إبداعية هدى عيد ومنظورها الفلسفي الوجودي للحياة والعالم، إذ استطاعت أن تنسج من اليومي والعابر جوهرًا فنيًا خالدًا.
هي ابنة بيئتها وربيبة زمنها، تعيد صياغة الحياة في قالب روائي يزاوج بين الجمال والوجع، بين الواقع والمتخيل، بين الحلم والهاجس. فـ«سلطان وبغايا» ليست رواية عن السلطة والجسد فحسب، بل عن أغنية الأرض التي تُنتزع رمزيًا من واقعها لتُعاد صياغتها إبداعيًا، محمّلة بدلالات سيكولوجية وميتافيزيقية واجتماعية وجمالية، تهذب الذائقة وتوقظ الحس الإنساني في مواجهة القبح والعنف.
اللغة السردية هنا ليست أداة تزيين بلاغية، بل فعل مقاومة ورسالة معنى؛ هي تصرخ أكثر مما تتكلم، تكشف ما لا يُقال في المجتمع اللبناني والعربي عامة: الدعارة المؤسّسة، والسلطة المتواطئة، والانهيار القيمي تحت واجهة الديكورات الحديثة (سيارات، طائرات، سفن، تجارة، مخدرات، متفجرات، تحف، لوحات فنية، رسم تشكيلي… إلخ).
كل ذلك يؤثث قاع المجتمع المخملي المتوحش، فمن يمتلك المال يمكنه أن يشتري أي شيء، من المخدرات إلى المتاجرات بالبشر، ويمكنه أن يعيد تشكيل هوية أي شخص من الفقير إلى الوزير.
«سلطان» نموذج للإنسان النيوليبرالي الذي يحوّل كل شيء إلى رأس مال، حتى العلاقات الإنسانية. «البغايا» هنا لسن مجرمات، بل ضحايا نظام لا يرى في المرأة إلا وظيفة بيولوجية أو سلعة استهلاكية. في هذا المعنى، الرواية أقرب إلى بيان نسوي ساخر يعرّي العقل الذكوري الأبوي المتحالف مع السلطة.
ثمة فارق خفي، لكنه عميق الأثر، بين الرواية التي يكتبها الرجل وتلك التي تكتبها المرأة. ليس الأمر تمايزًا يقوم على الانتماء الجنسي أو الانحياز الأيديولوجي لما يُعرف بالأدب النسوي، بل هو تمايز في نَفَس الكتابة، في الإحساس بالعالم، وفي طرائق التعبير عن الوجود الإنساني.
إذ إنّ الرواية التي تكتبها امرأة تمتلك حساسية خاصة، شفافة وممتدة إلى تخوم الحميمي واليومي والباطني، وكأنها تُصغي إلى نبض الوجود لا إلى ضجيجه. حتى حين تتحدث الكاتبة بلسان رجل، يبقى هناك ظلّ أنثويّ ناعم يتسرّب في نسيج السرد، في علاقات الشخوص، في بناء اللغة، وفي الإيقاع الداخلي للأحداث.
ليست مجرد تقنيات أسلوبية، بل هي رؤية إلى العالم تتشكل من تجربة أنثوية ترى في التفاصيل ما يراه الرجل في البنية، وفي العاطفة ما يراه في الفعل، وفي الحكاية ما يراه في الصراع. لذلك تخلو رواية المرأة غالبًا من ذلك العنف اللغوي والرمزي الذي يطبع السرد الذكوري، حيث البطولات والانتصارات والمآسي الكبرى.
في مقابل ذلك، نجد في سرد المرأة حكمة الرفق، وعمق الإصغاء، ورفاهية الصبر على تشكل الأشياء ببطء الحياة لا بعجلة الحدث. إن الكاتبة هدى عيد تنظر إلى فعل الكتابة كما تنظر الأم إلى فعل الولادة: ليس إنجازًا بل رعاية، ليس إنتاجًا بل إنماء.
فالرواية عندها كائن حيّ يتنفس، يحتاج إلى الحنوّ والوقت والتغذية الروحية ليكتمل نموّه في حضن اللغة. ولهذا تبدو رواية المرأة أقرب إلى تجربة الأمومة في معناها الرمزي: فهي تخلق العوالم لا لتُهيمن عليها، بل لترافقها في نموّها وتحوّلاتها، مراقبةً إياها بعين الحبّ أكثر من عين السلطة.
كما أنّ لغة الرواية النسوية غالبًا ما تكون متدفقة، رقراقة، تنساب كما الماء في مسارب الوجدان، خالية من الصخب والمغالاة في الصراع والتفاخر بالقوة والانتصار. لا تعنيها النهايات الحاسمة، بقدر ما تشغلها رحلة التكوين، التحول الداخلي للشخصيات، وإيقاع الزمن العاطفي الذي يتشكل من الانفعالات والمشاعر والخيالات الصغيرة التي تصنع الإنسان في سياق الأحداث الحية.
هنا، حيث اللغة الشغوفة والأحاسيس المرهفة والرفق الجميل، تتخلق الرواية النسوية كما هو حال رواية صديقتنا البيروتية العزيزة هدى عيد «سلطان وبغايا».
في النهاية، لا تُنهي هدى عيد روايتها بانتصار أحد، بل بفراغ شامل. كل الشخصيات تعود إلى العدم؛ فالذاكرة تحترق، والوثائق تُمحى، والجسد يفنى، ويبقى السؤال معلّقًا: من يملك الحقيقة في عالم تواطأ على إنكارها؟
الرواية، بهذه النهاية، صرخة وجودية ضد النسيان، ومرثية للإنسان العربي الذي اختنق بين سلطة المال وسلطة الذكورة وسلطة النفاق العام.
وخلاصة المعنى: إنّ كتابة المرأة ليست «أدبًا أنثويًا» بالمعنى الضيق، بل هي أفق إنساني مغاير في فهم السرد واللغة والكينونة. هي كتابة تُعيد الاعتبار للحنان كقيمة جمالية، وللصمت كإيقاع فلسفي، وللتفاصيل الصغيرة كأمكنة كبرى للمعنى.
وأنا أقرأ رواية هدى عيد استوقفتني ثقافتها الفلسفية النقدية المستنيرة، فضلًا عن تخصصها الأكاديمي في النقد الأدبي المعاصر القريب من الفلسفة؛ ترى العالم بعيون فلسفية ذكية. بهذا المعنى نفهم ما ذهب إليه جان فرانسوا ماركيه في أن الأدب يُعتبر «مسكونًا بالفلسفة»، بمعنى أن الأدباء لا يكتبون في فراغ نظري؛ فالأدب محمّل بأسئلة فلسفية عن الحياة، والتاريخ، والهوية، والآخر، والذات، واللغة، والزمن، والوجود، والمكان.
وتتميّز الرواية بقدرتها على الانتشار والتأثير أكثر من الفلسفة، إذ تجمع بين الأدب والفكر والأنثروبولوجيا وعلم النفس والذاكرة والسرد في صيغة قادرة على ملامسة ذائقة القارئ مهما تنوعت موضوعاتها وأساليبها.
فهي، بلغتها السردية والإخبارية والتفسيرية والسيكولوجية، تمنح الفلسفة وسيلة للانفتاح على الحياة والتجربة، وتتيح لها أن تتسلل إلى وعي القارئ عبر الحكاية لا عبر التقرير النظري.
فالرواية لا تقدم الفلسفة بوصفها درسًا ذهنيًا أو نظرية جافة، بل تجعلها معيشة داخل النص، حاضرة في الشخصيات والأحداث، بحيث يتذوق القارئ المعنى الفلسفي وهو مأخوذ بجمال السرد ومتعة القراءة.
كما كتبت الروائية البريطانية الوجودية جان أيريس مردوخ (ت. 1999م):
«الأدب يمكن أن يُقرأ من قبل الكثيرين ذوي مشارب ومنازع شتّى؛ أمّا الفلسفة فلا تُقرأ إلّا من قبل نخبة قليلة إذا ما قورنت بقرّاء الأدب».
رواية «سلطان وبغايا» رواية جديرة بالقراءة المعمّقة.