- كتب: خلدون العامري
عرف الباحثون القصة الرمزية بأنها : “قصة لا تقول الأشياء بصورة مباشرة واضحة، وإنما تشير إليها بإشارات تحتاج إلى التأويل والتفسير من القارئ”
ومن ابرز سمات هذه القصة:
1- تعدد المستوى النصي، مستوى ظاهر سطحي سهل التناول، ومستوى باطن عميق لا يدركه سوى النخبة من القراء .. تعدد ذات بعدين خارجي وداخلي يمنح القصة مكون جمالي قيمي بديع ..
2- الحكمة: تتميز الرمزية القصصية الناضجة، بالحكمة والإحترافية اللذيذة، كونها تعمل على تقريب المفاهيم وترسيخ الدروس ..
3- الإبداع التشاركي ايحاء الكاتب وثقافة القارئ:
الكاتب المبدع هو الذي يستطيع أن يصبغ عمله بالرمزية ويجعله حمال أوجه يحمل معنى ظاهري، وآخر باطني يحمل الإيحاء دون الوقوع في السطحية والتصريح المباشر،،
–بينما يكمن ابداع القارئ في الوصول إلى العمق المجازي المتمرد على الواقعية، ذاك البعد المتجاوز للبناء الجزئي الضيق إلى المطلق الشامل، بما يمتلكه من ثقافة ومعرفة تمكنه من قراءة الإيحاء استجابة لما تمارسه الرمزية من عصف ذهني تؤدي دورها في المخيلة من تلقاء نفسها عن طريق النشاط الذهني للقارئ تاركة له حرية فهم ما يشاء وتوجيه الأسقاط كيفما أراد وهذا هو مايسمى بالإبداع التشاركي بين الكاتب المحترف والقارئ المثقف..
- حالات استخدام الرمزية
1- في الماضي لجأ الكتاب إلى الرمزية خوفا من التصريح في مواجهة القمع السياسي، والقهر الديني، والكبت الجنسي وهناك من تعامل بذكاء مع مثل هذه الحالات وأكبر مثال على ذلك في تاريخنا الأدبي هو كتاب “كليلة ودمنة”،،
2- أما في الحاضر لم تأتِ الرمزية خوفا من الأسباب الآنفة، انما جائت استجابة لدواع فنية بحتة لما تبعثه من إيحاء، وما تثيره من متعة وتأمل، حيث تشرك القارئ في القصة بشكل أكثر فعالية ..
وفي قراءة جمالية للقصة الرمزية القصيرة بعنوان “مباراة أخرى خاسرة …..” نجد أن القاص عقيل محمد سعيد استطاع وفي أقل من 500 كلمة أن يقدم لنا قصة نخبوية رمزية ذات إبداع تشاركي وإليكم القصة:
أَفِقْتُ مفزوعاً أتحسس هَشِيم رأسي بعدما بدا وكأن أحدهم هوى عليه بغتة بمطرقة ضخمة .. مسحت العرق البارد الذي غطى جبهتي ،تلفت يميناً وشمالاً ولكن لاأحد هناك .. كان الملعب فارغاً وموحشاً الا من بقاياغبار وشمس غاربة صبغت مدرجاته المتهالكة وارضيته الترابية غير المستوية بلون أحمر باهت فبدت كأنها من قرميد مطحون ..
لابد أني غفوت اثناء المباراة وانتهت وأنا أصارع كوابيسي .. كنت مجهداً، لم أنم منذ مدة بسبب ذلك الكابوس اللعين الذي يلاحقني في أحلامي كلما غلبني النعاس ولا أتمكن من الإفاقة منه إلا بشق النفس ..
غادرت متثاقلاً بإتجاه محطة الحافلات الواقعة على بعد كيلومترات .. كانت حشود المشجعين المتحمسين تتكدس على طول الطريق، وقد انخرطت كعادتها عقب كل مباراة في سجالات متشنجة و جدالات عقيمة حول النتيجة وأداء اللاعبين والمدربين والحكام، لاتخلو من مُشَادَّات يصل بعضها أحياناً حد العراك ..
سألت اقرب شخص صادف وجوده الى يساري :
- من فاز ؟
ارتسمت على ملامحه علامات الإندهاش قبل أن أخبره بما حصل لي .. ومع انه بدا غير مصدقاً تماماً لروايتي ، إلا أنه رد بتفلسف : - يا أخي الفائز في المباراة كان معلوماً قبل ان تبدأ ! كل هذا الجدال الذي تراه محض هراء .. مباراة حاسمة كهذه لاتُكسب في الوقت الضائع ..
صمت منتظراً إشارة مني ليسترسل ويوضح ماقصد ، لكن من سوء حظه لم تكن بي أي رغبة لمجاراته، كان مجرد سؤال عابر لاغير .. في الجوهر لم يكن يهمني حقيقةً من فاز ، لم تستهوني هذه اللعبة يوماً، وعندما أحضر بعض مبارياتها بين الحين والآخر ، أفعل ذلك في الغالب مرغماً لأنه لامكان آخر أذهب اليه .
ماكان يشغل تفكيري جدياً لحظتها أكثر من إنتظار إجابة شافية على سؤالي ، هو كيفية اللحاق بآخرحافلة مغادرة بإتجاه المدينة، أن لايفوتني موعدها كما حصل معي مراراً من قبل في مناسبات كهذه ، وبدا واضحاً أنه سيتكرر هذه المرة أيضاً بعد أن سدت رعونة الحشود المتناوشة كل المسالك الممكنة الموصلة للمحطة ..
وفي خضم استغراقي بهواجسي تلك وجدتني أتمتم مبتعداً دون أن ألتفت اليه ، وقد علقت في تفكيري عبارته الأخيرة : - صدقت ياصاح .. مباراة كهذه لاتُكسب في الوقت الضائع .. وأظننا الخاسر الوحيد فيها .. لكن ماذا بوسعنا أن نفعل يارفيقي وكل أوقاتنا ضائعة ! .. كلها !..
بعد اذ أوردنا هذه القصة القصيرة كمثال قوي على الرمزية القصصية التي تشاركناها ابداعا في العبارات:
- “كان الملعب فارغاً وموحشاً الا من بقايا غبار وشمس غاربة صبغت مدرجاته المتهالكة وارضيته الترابية غير المستوية بلون أحمر” كناية عن الساحة التي تعج بالصراعات والإقتتال وقد لطخت الأرض بالدماء ..
- “مباراة حاسمة كهذه لاتُكسب في الوقت الضائع ..” ايحاء بأن نتيجة الصراع محسومة سلفا بينما كل مايجري ليس سوي عبث ومتاجرة لتمرير أجندة معينة ..
- “لم تستهوني هذه اللعبة يوماً، وعندما أحضر بعض مبارياتها بين الحين والآخر ، أفعل ذلك في الغالب مرغماً لأنه لامكان آخر أذهب اليه” تعبير عن تذمر الفئة الغير منخرطة في هذه الصراعات الحاصلة ومدى استيائها ما يجرى لكنها مجبرة كون الصراع فرض فرضا في هذه البيئة ..
ضيق الأفق
الآن وبعد أن تأملنا الأمثلة الآنفة نجد الرمزية فنا أدبيا متقدما .. ولنا أن نتسآءل هل أن القارئ العام له من الوعي والإدراك مايمكنه من فك الرموز وتذوق القيمة الأدبية؟؟
أم أن التذوق يبقى حكرا نخبويا بامتياز ؟؟
وان كان كذاك فما جدوى أن يحلق الكاتب في آفاق تنأى عن ذهن القارئ و تتجاوز مداركه؟؟