- ضياف البراق
أول ما خرجتُ من رحم أمي وانطرحتُ عاريًا على حصرة بسيطة أتلفَ الترابُ وسطها وبعض أطرافها، صرختُ حتى سال الدمُ من فمي، وبقيتُ أصرخ وألهث في الفراغ إلى هذه اللحظة. وكانت أمي تصرخ وتنهار من كثرة الهلع الذي يعصر طفلها المهزول. سالت مِنّا كل الدموع حتى ذاب القاع من تحتنا وانقشع السقف من فوقنا. بكاء أمي الصامت أحدثَ ارتجاجات كثيرة في رأسي وصدري، لا تزول آثارها مع الزمن. وآلامي قصمت قلبَ أمي لتصبح بلا بصر. وبفضل هذا الهلع الجارِف سأرى كل شيء.
رأيتُ الجدران وهي تهتز وتصرخ معنا، وتشرَّختْ وهي تحاول استنقاذنا من بطن الحوت أو العاصفة. بيتنا رديء جدًّا، وصغير جدًّا، وسيبقى عاجزًا عن احتواء الموقف. وربما غادر أبي قبل مجيئي بزمنٍ قصير، واختفى طويلًا عن أصابع أمي، ولكنّه حتمًا سيعود ولكن بعد فوات الأوان. تعذّبتْ أمي أمام بشاعة وجعي، وانقتلتْ وهي تتحرَّق من الشوق إلى عودة غائبها البعيد، ذلك الذي يتشظّى في كل المسافات وتبتلعه أضرارُ وهواجسُ الغربة الكبيرة. الثلاثة انسحقنا تحت ضربات الضياع الراعب، وانزلقتْ حياتُنَا إلى الهاوية. رملًا صرنا على مسرح الواقع. وحانت عودة أبي، واندلعتِ الحربُ في طريقه، فلمْ ينجح في أي شيء. سيبقى يتضعضع هناك. يئسنا منه وتناسينا أننا ننتظره هنا. هو أيضًا سيتشبّث بالنسيان الكاذب. غير أنّ صراخنا الثلاثي لا يزال.
مع الأيام كبرتُ قليلًا وخرجتُ فارغًا إلى الشارع، وكنتُ مع ذلك لا أفارق أمي كثيرًا. خرجتُ أبحث عن الأشياء الضرورية التي لا تأتي من دون أن نفقد الكرامة. أمي كبرت أيضًا، وابيضَّتْ بكاملها وصارت كفني الأبدي. الكفنُ الأبيضُ ليلٌ مخيف.
في الشارع غرقت عيناي في بؤس المشهد، وغرقت قدماي في مستنقع الجنون الجمعي. لون الغرق أكبر من أن تستوعبه قدرتي المحدودة. انفرطت حياتي وانتثرت كلها تحت أقدام المارّة وإطارات السيارات والأحلام الضائعة. وعاد أبي أخيرًا ومرَّ لاهثًا من نفس الشارع، ومن أمامي تحديدًا، ولم أعرفه ولا هو سيشعر بي. لم أرَ المسيح يمشي على الماء ولكنني رأيته مصلوبًا في كل الجهات. في بيتنا رأيتُ وجهَ أمي فقط. وفي الشارع رأيتُ كُلَّ شيء، إلّا الله والإنسان والوطن.