- كتب: فاروق محافظ
دوماً كعادتي عند قراءة نصٍ محترم فأنا أقضي وقتاً مطولاً في اعادته لتحصيل قراءاتٍ أخرى عن النص تبدأ بالفكرة ثم اللغة و اللمسة الفنية المضفاة على الفكرة في النص اللغوي و الانتهاء بتحليلٍ أعمق للأفكار بالربط بين تفاعلاتي السابقة مع النص في كل قراءة لتحصيل تلك اللذة المنقطعة النظير في نظائرها ذات الملذات الجسدية غرائزياً.
أحاول أن انقل لذةً فنية لقراءةٍ مقتضبة للجميل فارس العليي حول رواية تبادل الهزء لمحمود ياسين و أرسم صورةً بسيطة علّني استطيع لوصف أسلوب العزيز فارس في الكتابة.
كالعادة في كتابته المقالية كهذه العينة ليست مجرد نصٍ مقاليٍ جاف يحمل الآراء و الحقائق بحدة و إنما هي أقرب لملامستها للشعرية التي تضفي على أسلوبه لمسة تجعل المتذوق يميز كتابة فارس من بين آلاف النصوص، نعم المتذوق و أنا أعني ذلك، فنص كاتبنا متشبعٌ باللمسة الفنية التي تجعله متميزاً عن العمل الصناعي كعملٍ فني يجعل له قيمةً جماليةً مصدرها النص نفسه لا في تفاعل القارئ معه.
أدائية هذا النص عند توفر جمهور المتذوقة تمنح اللذة اللاجسدية التي أظن أن الكثير من المتذوقة لكتابة فارس يشعرونها حين يتفاعل النص معهم.
أتذكر له جملته الشعرية البديعة ” أيها اللاشيء.. نحن اشياؤك الضائعة” التي أقول أنه لم يخلق مثلها شيء، و التي تحمل كل قارئٍ لها و متأمل لسلسلةٍ من التأويلات الفلسفية و الأحكام الخارجة عن سياق المألوف و الاعتيادية بين وجودية و عدمية عميقة و أخرى بسيطة تقف و كأنها احتجاجٌ مُقنَّع في تأويلي الشخصي لعبثيةٍ إجمالية الوجود. صدقوني هذه الجملة لوحدها تلخيصٌ لمشوار طويل من الصراع مع فلسفتي الوجود و القيم، و هذا ما يميز الشاعر عن الفيلسوف و الكاتب، فالفيلسوف يحتاج لعمرٍ من الاسهاب الشرحي لنقل الفكرة على عكس الشاعر و الفنان الذي يمكنه أن يختزل عالماً من الأفكار في جملةٍ واحدة، لغويةً أو ماديةً أو مجردة الوجود، و لهذا وصف الراحل البردوني أنصار الشعر و قرائه بالقلائل، ثم أن الدائرة تضيق أيضاً من حيث مفككي و متذوقي النص الشعري الذين هم أقل في هذا الجمهور.
نصه هنا و كعادته في شعره و مقاله، مع امتلائه بالزخم التصويري و الأدوات البلاغية، يُستعملُ بريشةٍ حذرةٍ في حدٍ فاصلٍ أشبه بصراط ميثولوجيا النهاية بين التعبيرية و البنيوية.
النص يشتمل على كمٍ هائلٍ من الملامح التعبيرية و التي لشدة حذرها ايضاً لا يمكنك كمتذوقٍ أن تحكم عليها بالتعبيرية الطابع و لو لوهلة لازدحامها بالأفكار التي تحملك على الظن ببنيويتها لتكون واحدة من أبرز سمات أسلوب الكاتب الشاعري.
النص المذكور و الذي سألحقه بهذا العطف يمكن ملاحظة أسلوب تبادل الأدوار بين مواقع الفاعلية السائد على طابع كتاباته كالنص التالي:
“قضايا هائلة تخاصم و تصل بالفلاح للموت في سبيل أرضه… “
هذه الحركة في تحويل موقع الفاعلية جاذبةٌ في علم تحليل الخطاب من حيث تبديل دور الفاعلية بين الفلاح و القضايا لتصبح هي من تخاصمه و تقوده و ليس الفلاح من يخلقها في الأساس، أما من جهةٍ أخرى فالفلاح في ترتيب مفردات الجملة أقرب للأرض من مفردة قضايا لتحمل معنىً أقرب عند المتذوق لتأكيد الكاتب على قوة ارتباط الفلاح بأرضه و قربه منها.
في تطور المخيال القديم لمختلف الحضارات نجد أن التجسيدية للوجودات المجردة من قوى الطبيعة و مجتمعات الالهة على سبيل المثال مرت بحركاتٍ تطورية تجسدها أكثر في سبيل تقوية موقف العقيدة على الإقناع، يمكن أن نقف عند تجسيده المتكرر في الكثير من النص كما في مطلع كتابته بوصفه الأخلاق بالرتابة لمنحها بعداً تجسيدياً أقرب للقارئ يمكن المرور عليه بإهمالٍ إلا أن لها بعداً تأثيرياً في ذاكرة البشر مع الفكرة، تتكرر ايضا في تجسيده للجهل كوجودٍ مادي يمكن إلقاؤه و وقوع الفعل عليه كما في النصوص التالية المليئة بالأنسنة و الإحياء:
” هذا ليس مجرد قلة وعي او شيئاً من الجهل يمكن إلقاؤه كما يعتقد الكثير من المثقفين…”
” .. تتواشجها مواجيدنا..”
“.. بهتت فيها عزيز الذكريات.”
“.. يحدث استحمام ملهوف لليالي الشريدة”
” .. قطرة صباحٍ اختصرت الشمس فيها نفسها..”
“.. و اندهاش للمرايا التي تعذبها كلماته النقية..”.
و على سبيل الفكرة، من متى كان النضج خياراً؟!.. إنه تأكيدٌ أخر وجودي الطابع يعفي عن نقاشٍ طويل عبر التاريخ في الوجود و الماهية و القيم في نص الكاتب:
” لدى يمنيٍ تقع الزلات ضمن خيار النضج عنده..”
و أخرى في تعبيره عن علاقة الفلاح بالأرض و الجنس، و هي ليست مجرد مقاربةٍ تعبيرية تحمل تشبيهات و استعارات و انما هو فكرةٌ أخرى عن قضية تجمع بين الميثولوجيا و الخصوبة و المرأة و التاريخ التطوري للحضارة من مجتمع سيادة الآلهة الانثوية في آلهة الخصوبة على مجتمع الآلهة كما في حضارة وادي النيل و ارتباط مفهوم الارض و الالهة بالمرأة و الجنس و إسقاط الإنسان القديم لها في هذه المحاولة لفهم الطبيعة و التي تركت أثارها على اللغة و النص المقدس كما هو حال القرأن في وصفه العلاقة الجنسية بالحرث و التي ما زالت عالقةً في فهم الفلاح لعلاقته بأرضه و الجنس، و النص الذي يحمل هذه الدلالة و غيرها من الدلائل :
“.. الجنس لدى الريفي تعبير للحراثة و الارتباط بالأرض مضاجعةٌ تامةٌ عنده.”
القطعة أعلاه من النص أيضاً بالإضافة للدلالات السابقة تقفز لعالم القيم و الجمال بوصف هذه العلاقة باللذة الغرائزية في المضاجعة لا ثقلاً معيشياً على كاهل الفلاح تحتم عليه إفناء عمره في حراثة الأرض من أجل البقاء.
مداعبة فارس للكلمات او كما نصفها بالعامية بشكلٍ أدق بالمخانسة هي سمةٌ أخرى أساسية أيضاً في أسلوبه( نسيانات،المسترويات، تخميسة، تخصيبات، تواثق،…..) كعاشقٍ محترف يداعب ثغر أنثى.
يضيق الوقت و يخون التعبير عن الوصف و تبقى هذه اللذة متجددة في كل قرأة لنصوص الجميل فارس كتجسيدٍ إنسانيٍ للكمالية و كأي نصٍ فنيٍ بالمعنى الاستطيقي يستحيل فيها اشتمال اللذة المتذوقة في أداةٍ لغوية أعتبر هذا الوصف الشخصي لنصه مجرد تعبيرٍ سطحي لمتذوق.
ملاحظة: هذه ليست كتابةً نقدية حول أسلوب العزيز فارس و إنما محاولة لنقل تصورٍ عن لذة النص التي تؤثر فيّ شخصياً و دعوة لإجلال النص الفني كما نص فارس و اعطائه حقه في التأمل و التذوق.
………………
النص أدناه لفارس العليي
” شوحطة ” محمود ياسين رفيق وعي استخرج طاقته بصورة ساخرة تتجاوز بحرية رتابة الأخلاق الزائفة ، لدى يمني تقع الزلات ضمن خيار النضج عنده، و طريقة احتجاجية ضد نسيانات العالم الإقصائي لريفي يقبع شِيلانه رؤوس لحظة القات و انتشائه، و تسيل الدماء من مواقفه النهائية ساعة الغضب .
تنز رغبة الريفي بمخيال جنس لا يتوقف.. أكثر من رفقة منكر نفسه.
الجنس لدى الريفي تعبير للحراثة والارتباط بالأرض مضاجعة تامة عنده .
تثبت كم الحكايات السردية و الأقوال الحكيمة الناعمة المتواردة ذلك على لسان الأرض ، وكم قضايا هائلة تخاصم و تصل بالفلاح للموت في سبيل الأرض، هذا ليس مجرد قلة وعي او شيئا من الجهل الذي يمكن إلقاءه كما يعتقد الكثير من المثقفين قدرما هي علاقة بالأرض تتعدى أهمية الولد للأب .
لذا، حكايات و رويات ملحمية يكتبها ساردي العالم الى ما لانهاية ، ويتطرقها التأويل المعرفي والفلسفي والشعري و النقدي و جميعها تبجل هذه العلاقة بفخر ، و تجدها عند ياسين سلسة بقدر تجربته الشخصية الحية كريفي يمني تتواشجها مواجيدنا لأنها تتشابه لدى أبناء الريف مغامرات نشأتهم و شبابهم بنفس التلكؤات و الخسرانات وللفوز عندهم كلواج ظفر ملك بالفرائس .
” شوحطة” تبادل اكثر من هزء مع العالم بين رجل وماضيه ، على سبيل إجراء حصر للمسترويات بأثر الأمكنة التي بهتت فيها عزيز الذكريات ، تحوم رواية ياسين ﻵداء فريضة التمرد بتوتر منتصف الليالي الحالمة ، اقصد في اللحظة المستعدة للتضحية نزولا عند رغبة الأماسي الباردة ، و احيانا تخميسة غيمة مرت سطوع منتصف الشعبانية فيحدث استحمام ملهوف لليالي الشريدة .
من جبل ما قطف ياسين ليلة مظلمة لتصانيف الحاجة ومسلتزمات الابتهاج بأعواد قات مسروق ، و العزي تعبير متعال لريفي امتلئ بالمعرفة و الإطلاع متجاوزا تعقيدات احساس الحداثة في ممارسة مثقف المدينة في إدراك تجربة الواقعية ، وتقديراته القاصرة تجاه مستوى معرفي مقابل في الريف حيث لغبار الأرض معنا وللضباب تخصيبات التوكل على الله في تواثق معطاءه بكل اخطائها لكن بجمال قطرة صباح اختصرت الشمس فيها نفسها.
عالم القرية مخيال روائي و شاعرية تتفننها زخات الخضرة تجسيدا للعطاء المكتسب من أمنا الأرض و التصاق مباشر بالحقيقة .
اعرف أحمد الزراعي الشاعر الذي خبره الريف والعكس بسالة و اندهاش للمرايا التي تعذبها كلماته النقية الواشعة كعذق الخريف ، الا ان الكتابة عن رحلة عجائب الشعرية بشكله العياني المباشر ، مفارقة زراعية من نوائح العرب الى مرافئ حداثوية لكن بنكهة وادي كاذية.
فيما تبقى الكتابة عنه قاصرة أين كان انطباقها الفني وتقنيات التيه الهرمينوطيقي المتكسر في بروقها كلما صعدنا مجهولات تأويل استطيقا التذوق الجمالي لبنية الصورة ‘حقيقة انعكاسها الإبداعي المنتج.