- كتب: محمد ناجي
في كتابه (توحيد اليمن القديم…)يتناول المؤلف :أ. د. محمد عبد القادر بافقيه، تاريخ اليمن القديم في القرون الثلاثة الأولى الميلادية ،في رحلة علمية ،يستقرئ فيها النقوش المتوفرة حينها ، ومراجعا المصادر التاريخية التي تتعلق بهذه المرحلة ،مصححا ومصوبا ومحتملا لبعض الآراء . مبتدئا بتاريخ سبأ ثم حمير ،وقتبان وأوسان وحضرموت ،قارئا في الجغرافيا والنصوص والنقوش ، مستنبطا ممكنات ما تقوله تلك المصادر ،وفاتحا أبواب البحث والكشف لما ظل مبهما أو غامضا، أو معتما…
لقد قام الكيان السبئي –بحسب المؤلف- على كيان قديم ،في حين كان الكيان الريداني وليدا ما نزال نجهل كثيرا من الظروف التي أوصلت إلى نشأته .لكننا استنباطا ،أنه اشتمل على مملكة رُعَيْن(رعنن) الحليف القديم لمملكة سبأ أو أنه حل محل تلك المملكة . ونعرف أيضا أنه تكون كنتيجة مباشرة للأهمية المتزايدة التي اكتسبتها المنطقة الجنوبية الغربية حيث تقع الموانئ :موزع (ثم المخا) وعدن ، بسبب ازدهار التجارة البحرية نحو بداية التاريخ الميلادي.ص18.
في رأي المؤلف فإن أطرافا مختلفة تبنت مواقف للتأثير على وحدة سبأ وذي ريدان ، ومن ذلك ” حضرموت التي كانت القوة المحلية الرئيسية في مواجهة قوة سبأ وحمير مجتمعتين أو منفصلتين وفقا لتقلبات التحالفات، وكان هناك أيضا قتبان التي على ما يظهر –خاضت حرب حياة أو موت حينما وقعت ،وهذا منذ البداية بين فكي كماشة القوتين السالفتين والتي لم تلبث أن لفظت النفس الأخير بعد تقسيمها قبل حوالي قرن من نهاية الفترة”ص18.
مَثَّل بعد اليمن كموضع وموقع عن مراكز التمدن في الشمال سببا طبيعيا في تأخر نشوء المدنية فيه مقارنة بتلك البلاد” فإن ذلك البعد ووعورة الطرق إليه قد جعلاه بمأمن من عبث الجحافل التي كانت تجوب الشام (سوريا) جيئة وذهابا طيلة قرون، وساعد ذلك على أن تنشأ فيه مدينة ذات طابع خاص اتسمت مؤسساتها ومعتقداتها بالاستمرار طويلا دون أن تكون في نفس الوقت منغلقة على نفسها، إذ أنه من خلال النشاط التجاري عماد ازدهار اليمن القديم وقاعدة تمدنه ، قد دخلت المؤثرات بالقدر المطلوب لتحدد تلك الحضارة وتساعد على نموها”ص21.
يقدم لنا بافقيه فيما سبق تفسيرا للخصوصية اليمنية في مؤسساتها ومعتقداتها ،تعود لطبيعة الموقع والموضع الجغرافي لليمن وتضاريسه، أي أن (عزلة) اليمن ليست ذات طابع سياسي محض ، أو أن العزلة ليست مختزلة في القرار السياسي فقط ، وإنما تعود هذه العزلة بشكل رئيسي إلى طبيعة اليمن وموقعها، ووعورة تضاريسها، مما يجعل التأثر بالآخرين يأخذ قدره المطلوب ،والذي يمكن امتصاصه في إطار الخصوصية اليمنية في الإدارة السياسية والمعتقدات، أي خصوصية حضارية وثقافية.
ويرى المؤلف أن “الوضع المتميز المتمثل في قيام حضارة في ذلك الركن القصي من بلاد العرب .هي في نفس الوقت ذات اتصال بالضرورة مع الشام وما يعرف بالهلال الخصيب ، إذ قامت على طول الطريق بين اليمن وتلك الأصقاع مراكز تجمع بشري مرتبطة بذلك الشريان الحيوي الذي أسماه البعض طريق البخور وهو مراكز لم تلبث أن اتسعت وقويت مشاركتها في النشاط الحضاري من خلال مشاركتها في النشاط التجاري ، وكونت مع اليمن وحدة حضارية ثقافية اقتصادية مزدهرة، جعلتها تعرف في القرون الأخيرة قبل الميلاد ” العربية السعيدة” التي تضم كل أقسام الجزيرة الخمسة عند الجغرافيين العرب، تهامة والحجاز والعروض واليمن”ص21.
في نقش الملك السبئي كرب إل وتر بن ذمار علي ،كأقدم مرجع عن الجغرافيا السياسية لليمن نحو مطلع القرن السابع قبل الميلاد نجد حملات كرب إل وتر بن ذمار علي تحكم سيطرتها على الهضبة الغربية الكبرى شاملة المعافر(الحجرية) في الجنوب الغربي حتى أطراف حضرموت من ناحية، والجوف فنجران من ناحية أخرى ، وأيضا حتى غرب الهضبة على مشارف صنعاء ، مرورا بدلتا تبن(تبنو) ودلتا أبين (تفض) حول عدن قريبا من باب المندب ،فيافع (دهس) ودثينة وسلسلة جبال الكور وأوديتها الداخلية”ص22.
وقد تحالفت حضرموت في الشرق وقتبان في الغرب مع (كرب إل) كما جاء في النقش.
بقيت سبأ كما يرى المؤلف (على الأقل من عهد كرب إل) كما يبدو أكبر وأشهر تلك الممالك وأغناها في نظر العالم الخارجي، تسيطر على الهضبة الغربية الرئيسية ، ويبلغ نفوذها إلى أراضي رُعَيْن على أطراف تلك الهضبة، وتتحكم في التجارة إلى الشمال من خلال الجوف الذي كان فيه مدن هامة كنشق ونشن.ص24.
وكانت طرق تجارة اللبان شريان عالمي ، مع تطور الملاحة يربط بين موانئ اليمن بمصر من الشمال ، وأفريقيا من الجنوب والغرب، والهند من الشرق ، مع ازدهار طرق التجارة مع الحجاز وسواحل الخليج، وارتباط ذلك ببلاد الرافدين ، حتى ساد اعتقاد عم دوائر العالم بأن السبئيين والجرهائيين (أصحاب مدينة خليجية لم يعثر بعد على موقعها) هم أغنى العرب والمتحكمون في التجارة العالمية بين الشرق والغرب.ص24.
ظهور الأقيال :
يرى المؤلف أن ظهور لقب (القيل) قديم نسبيا، غير أن النقوش القديمة المعروفة التي ورد فيها ذلك اللقب قليلة ولا تساعد كثيرا على فهم أسباب وعوامل بزوغه، لكن تناول المؤلف لهذا اللقب تاريخيا يجعل ظهوره مع القرن الميلادي الأول ، وهو يظهر في بعض الجغرافيا اليمنية وليس كلها، وفي رأيي أن هذا اللقب قد نشأ مع ضعف الدولة اليمنية وتفتتها ، فتحول كبار موظفيها إلى أقيال يتحكمون بالمناطق التي يديرونها ، يقول المؤلف” ومع ذلك فإن علينا أن نلاحظ أن الممالك الصغيرة القديمة لم تتحول كلها إلى مقولات، فممالك مدن الجوف التي حكمها أيام كرب إل وتر بن ذمار علي RES 3945)) ملوك صغار لم يحل محلهم حين اختفوا أقيال .بل إن الجوف لم يعرف نظام القيالة . وما عرف من مدن في فترة ذيوع النظام أصبحت مرتبطة بملك سبأ مباشرة.ص53.
وفي حضرموت بحسب رأي المؤلف لم يكن يصلح نظام القيالة في الهضبة الحضرمية، وإنما “كانت الأودية البعيدة عن الصحراء هي أماكن التجمع التي يقوم عليها نظام قيالة”ص54.
ومما يعزز الرأي بأن نظام القيالة كان مرتبطا بحالات التفتت والضعف ،فالأقيال يشكلون طبقة أرستقراطية من خلال الأرض والمحاربين في آن ، وهم شبيهون بالملوك . يتفق المؤلف مع روبان حين ذهب الأخير إلى أنه من المحتمل أن جوهر وظيفة الملك لم يكن مختلفا عن جوهر مهمة القيل. ولهذا فإن من وصف الأقيال بأنهم ” ملوك صغار” لم يخطئ.ص57.
يتفق المؤلف مع رأي الهمداني “الذي يؤكد بعبارات واضحة أن تدخل الأقيال إنما يحدث في ظروف معينة…وهو جو في مجمله مضطرب لم يكن نظام الوراثة العادي كفيلا بمواجهته . ومن هنا جاء اهتزاز المؤسسة الملكية وظهور ملوك من الأقيال ولكن الاهتزاز أيضا شمل المؤسسة القبلية نفسها أيضا فلم يكن انتقال السلطة فيها وراثيا وهادئا باستمرار.”ص59.
أرض سبأ:
يلاحظ المؤلف أن نفوذ بعض ملوك الأسرة السبئية التقليدية امتد إلى أرجاء بعيدة جنوبا ” فيما عُرف في مراحل متأخرة أرض حمير أرض حميرم (4/Ja578)وهذا يدل على أن اللقب المزدوج(أي ملك سبأ وذو ريدان) لم يكن مشروعا مع إيقاف التنفيذ ، أو ادعاء متبادلا في كل مراحل هذه الفترة”ص107.فسبأ حين نشأتها كانت مملكة قبلية كغيرها من القبائل، ولكن سبأ حين وجدت في مأرب لم تلبث أن أصبحت قبيلة قائدة تبسط هيمنتها شيئا فشيئا على ما حولها ، ولهذا كان لقب (مكرب) في معناه (حاكم موحد للقبائل)”وأشهر من عرف ممن حمل ذلك اللقب كرب إل وتر بن ذمار علي الذي شملت حملاته العسكرية السياسية والاقتصادية رقعة واسعة من اليمن من نجران في الشمال إلى البحر في الجنوب ومن أطراف حضرموت الغربية في الشرق إلى الغرب من الرحبة”ص109.
عاصمة الحكم السبئي مأرب ، ومركزها المتقدم صرواح ،لكن الأهمية بعد ذلك انتقلت من صرواح إلى صنعاء “ولعل صرواح قد فقدت أهميتها تلك بعد قيام صنعاء”112. فأقدم نقش “معروف يذكر صنعاء يعود إلى منتصف القرن الأول الميلادي حسب بعض التقديرات ، وهو يرتبط بإسكان القبيلتين سبأ وفيشان بها(4/(GlA452 وذلك وقت هلك أمر بن كرب إل وتر يهنعم ملك سبأ وذي ريدان الذي يوحي بإنشائها من العدم في ذلك الحين أو مجرد تطويرها.”ص112، وسكانها الفيشانيين يصفون أنفسهم بأنهم يتبعون الملك( أدم ملكن أدم ملكن)(أتباع الملك) فإن فيشان كانت دون شك بين أبرز العناصر التي يتكون منها سكان تلك المدينة ، فهم لا يدينون مباشرة لقيل من الأقيال ، وإنما هم أتباع الملك
يتأكد دور صنعاء كعاصمة ثانية بعد مأرب في الدولة السبئية ، فوجودها منذ منتصف القرن الأول تقريبا مقترن باتساع المملكة التي “ربما امتدت جنوبا في أرض مقرأ بالقرب من ذمار. ولعله حينذاك كان قيام صنعاء وحلولها محل صرواح ضمن دورها كمركز متقدم”ص115.
لقد كان اختيار صنعاء وتأسيسها جنوب ما يعرف ببلاد همدان وبين ما عُرف في فترة ملوك سبأ وذي ريدان بأنه أرض حمير ، كان اختيارا موفقا وطبيعيا في ظل مشروع توحيد الكيانين السبئي والريداني الحميرية”ص116.
ويرى المؤلف أن الحميريين حين حققوا توحيد الكيانين بصفة نهائية “حرصوا على استلام سلحين في التاريخ العتيق واحتفظوا لمأرب بمكانتها الرمزية وهي صفة تركت أثرها في رواية إخبارية تقول إن ياسر يهنعم الذي رد المُلك على حمير لم يُغيِّر على بلقيس شيئا من أمرها في مأرب.” ولقد أوكل الحميريون أمر إدارة كبرى المدن السبئية ذات الصفة الاستراتيجية إلى سبئيين :مأرب ، صنعاء ، ونشق ، ونشن(28/476 Ja).”ص116.