- كتب: صابر سلطان
يقول هدجز: “فقط عندما نكون وسط المعارك، تتبدى لنا سطحية جزء كبير من حياتنا وتفاهته وعبثيته”.
البشر لديهم تلك الغريزة التي تحفزهم دائما على مواجهة العقبات والكوارث التي تقف في طريقهم منذ آلاف السنين، وكلما تجاوزوا تحديًّا بحثوا عن تحديات جديدة هذا إن لم تتكرم الطبيعة بفرضها عليهم. إنها الغريزة التي تتربع في أعماقنا وتدفعنا نحو التغلب على التحديات، فالتحديات هي الأكسير المغري والفاتن، فهي تقدم لنا حلا وسببا، وهي التي تعطينا فرصة للهيمنة على هذا الكوكب.
وما زلنا ننظر في مجتمعاتنا الصناعية التي أحالت هذا الكوكب إلى مكب نفايات، أحيانا، إلى الحياة الزراعية بنوع من الحنين ونتخيل أن البشر قد عاشوا متكافلين مع بعضهم، قريبين من الأرض، منسجمين مع الطبيعة. وهذه وجهة نظر خاطئة، (فحتى قديما كانوا أسلافنا البشر يبجلون الأرض بصفتها “الآلهة – الأم” وكان لخصوبتها تجليات متعددة، فهي “عشتار” في بلاد مابين النهرين، وهي “ديميتر” في بلاد الأغريق وهي “إيزيس” في مصر، وعنات في “سوريا” ولم تكن هذه الآلهة آلهة للرخاء والحياة الهادئة بل كانت موسومة بالعنف المفرط “فالأم الأرض” كانت تقوم وبشكل مستمر بتقطيع أوصال أقرانها وأعدائها على السواء كما تطحن حبوب الذرة إلى حبيبات وتهشم حبات العنب. في اعتقادهم بأنهم اعتدوا عليها كما تحكي الأساطير بأن الأدوات الزراعية تصور على أنها أسلحة تجرح الأرض، وهكذا أصبحت حقول الزراعة قديما حقولًا دامية. عندما التفت عنات حول “موت” إله الجدب، قامت بقطعه نصفين بمنجل طقسي ثم قامت بغربلته بالمنجل، وتفتيته بالمطحنة، ثم بعثرت أشلاءه النازفة في الحقول، وبعد أن قامت بذبح أعداء الإله بعل، واهب المطر والحياة، قامت بتزيين نفسها بالحنة وخضبت نفسها بالحمرة، وصنعت قلادة من أكف ورؤوس ضحاياها، ثم خاضت حتى ركبتيها في الدماء لتحضر مأدبة الانتصار).
لنا عبر التاريخ شواهدٌ كثيرة، بأن انتشار الأوبئة أدى أحيانا إلى تغيير نظرة المجتمع للعالم من حولهم، وكسرا للجمود أدى هذا إلى حركة نهضوية شاملة. يلخص هذا الدمار الذي تسبب به الطاعون في فلورنسا، والذي أصاب أوروبا ما بين عامي 1348 و 1350 كان سببا في تحول نظرة الإيطاليين للعالم من حولهم في القرن الرابع عشر. إيطاليا كانت المتضرر الأشد، قيل بأن الألفة مع الموت جعلت المفكرين يتأملون أكثر في حياتهم على هذه الأرض بدلا من الحياة الآخرة، كما كانت تروج له الأديان آنذاك. كما أن الطاعون دفع موجة جديدة من التقوى، والتي تجلت في رعاية الأعمال الفنية والأدبية.
ظهر عصر النهضة في إيطاليا نتيجة للتفاعل المعقد للحقائق المذكوره أعلاه، وبسبب الانخفاض الكبير في عدد السكان الذي وصل إلى النصف تقريبا، ازدادت قيمة الطبقة العاملة، وأصبح للعامة مساحة حرية أكبر. وبسبب الطاعون أيضا انخفضت أسعار المواد الغذائية، وقيمة الأراضي أيضا بنسبة 60%.. هذا بدوره أدى إلى نشوء جيل جديد متكامل البنية بسبب انخفاض معدل سوء التغذية، ثم توالت العوامل المسببة للنهضة حتى أن الأدوات المعرفية باتت أرخص آنذاك، وبدأ شروق شمس النهضة من إيطاليا.
كما أن الحرب العالمية الأولى والانفلونزا الإسبانية قاما بصياغة واقع جديد، سياسيا ومعرفيا وتكنولوجيا، حتى على مستوى الطب، ومن ثم الثورات كالثورة البلشفية في روسيا، وقد تلى ذلك الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى تشكيل واقع سياسي عالمي جديد، وبزوغ النظام العالمي الحالي بما يسمى بالأمم المتحدة، الذي ساهم في توحيد العالم رغم تعقيده تحت حكومة واحدة.
أما كورونا فيعتبر كارثة كبيرة حتى على المستوى الاقتصادي العالمي وقد يؤدي إلى بزوغ حرب عالمية جديدة، تليها نظام عالمي جديد، ما جعل واقع معظم الدول سجنًا بفعل الحجر الصحي الذي فرض عليهم. وعلى كل حال، سيخرج العالم بواقع مختلف على كل الأصعدة وستتغير ربما تلك النظرة التي ينظرون بها على أن الإنسان مجرد مستهلك وسلعة يتم تداولها، وأصبح الضحايا في الحروب مجرد هامش في أوراق المفاوضات، وستتم مراجعة الأنظمة الصحية، فالواقع فرض على أن أكثر الدول تقدما في الطب فشلت في إدارة الأزمة.