- كتب: مبارك اليوسفي
دون أي تخطيط مسبق وجدت نفسي على موعد سفر إلى تعز المحافظة التي تعيش تحت فوهتها كلاشينكوف قناصين. ثلاثة لن تكتمل سيكون زمن الزيارة لأحد الأقارب.
هيأت نفسي وتواصلت مع سائق باص- حافلة 16 راكب، ينقل المسافرين من صنعاء إلى تعز. صعدنا الحافلة التاسعة مساء يوم الأربعاء الموافق 12 مارس الجاري 2020، وبعد نصف ساعة كنا على تجاوزنا منطقة حزيز بالعاصمة صنعاء.
أحسست بشعور غير صحي وأنا أرى سائق الحافلة كان صغير جدًا، فسألته كم عمرك؟ وببرود أجابني 16 عاماً.
بعد حوالي 8 ساعات سفر وصلنا منطقة الحوبان بتعز، والتي لا يفصلها عن قلب المدينة سوى مسافة قصيرة كانت الحافلة تقطعها في حوالي نصف ساعة، قبل أن يتم فصلها ويُفرض الحصار على مدينة كانت حالمة فغدت مسكونة بالموت والوحشة. الطريق الواصلة بين مدينة الحوبان وحتى شوارع المدينة الداخلية منها شارع التحرير، لم تعد هي، فقد غدت مغلقة بفعل النزاع القائم بين طرفي الصراع. كان علينا أن نسلك طريقاً وعراً أخراَ من جهة الشرق مروراَ ببلدات كثيرة- منها: جبال صبر والأقروض والمسراخ ومناطق أخرى منعني عناء السفر من السؤال عنها غالبيتها إذا لم يكن كافتها تفتقد إلى ابسط مقومات العيش، حتى وصلنا مدينة تعز بعد حوالي 5 ساعات.
تعتبر تعز ثالث كبرى المدن اليمنية وأكثرها سكانًا، باتت مشطورة نصفين منذ أكثر من أربع سنوات، وطريق الحوبان مغلق بسبب الحصار المطبق على ومن المدينة. فوهات كلاشينكوفات القناصين هي الحاضر لمنع أي شخص الاقتراب من ذاك الطريق. طرفي الصراع اختلفا في كل شيء وأتفقا على شطر محافظة تعز نصفين، كما يوحي بأنهما اتفقا هنا فقط وعلى خنق المدينة الحالمة وقتل الأبرياء.
كان علينا التوجه إلى منطقة الدمنة وصولًا إلى المدينة، وصولنا المنطقة وقبل دخولنا الطريق الفرعي قررن الاستراحة للتخلص من عناء سفر تسع ساعات متواصلة، بعد نصف ساعة وصلت سيارةً أخر “صالون” حينها أبلغونا الانتقال إلى الصالون لمواصلة السفر إلى تعز.
دواعي الانتقال إلى الصالون بسبب وعورة الطريق التي لا يمكن للحافلات المرور فيها. مشهدٌ يبعث الحسرة أكياس البلاستيك حلت مكان اخضرار العشب والشجر.
رغم ثقل المعاناة جراء السفر استعدت قواي وأنا أشاهد بيئة منهوشةً بالبلاستيك والبارود، لم أكد أستوعب ذلك المشهد وأنا الذي طالما سمعت أن مناطق محافظة تعز غالبية سكانها مثقفين ينشدون بيئة أمنة وخالية من البلاستيك فما الذي حدث.
طلاب بلا مدرسة
يا للهول هل حقًا أنا في تعز والتي كانت تتفرد بأعلى نسبة تعليم وكذلك المنشآت التعليمية. هآنذا أبصرُ وعلى بعضة أمتار من الجهة اليسرى على الطريق أطفال حسبتهم يركضون فيما هم يأدون طابور المدرسة الصباحي، حملت جسدي المتهالك كي أرى المدرسة لكن لا شيء سوى شجرة ومعلم هي كل ما يملك هؤلاء الأطفال في بيئة تعليمية. تساءلت عن أسم المنطقة فقيل لي انها قرية (المُقضي) عزلة الاقروض مديرية المسراخ تتشكل من بيوت قديمة ومتناثرة أسفل الوادي ويتداخل معها منازلٌ حديثة توحي بدخول مواد بناء العصر إلى هذه القرية، مفارقةٌ غير سهلٌ استيعابها، مشهد يوحي بالرفاهية واخر بفاقة كبيرة.
وفق تخميني عدد الأطفال لا يزيد عن خمسون طفلًا أعمارهم (7-17) ويقف في الأمام شاب يبدو أنه أحد المعلمين وفي الجهة الأخر امرأة ورجل أخر يبدو أنهم مدرسين. لم يتسنى لي التأكد من ملامحهم بسرعة السيارة، كم أنا حزين أن يكافح هؤلاء الأطفال للتعلم وسط بيئة مفتوحة ولا يوجد فيها أدنى مقومات التعلم سوى عزيمة الأطفال ومثابرة الرجليين والمرأة لتعليمهم، رغبت في طرح سؤال لماذا هؤلاء الأطفال لا يمتلكون مدرسة كل من حولي يجهلون الإجابة.
تبادر إلى ذهني المبادرات المجتمعية التي طالما سمعت وقرأت عنها في شبكة التواصل الاجتماعي في هذه المدينة المنكوبة. أين هذه المبادرات في هذه القرية وعاد رجع صدى تساؤلي أن الكبار لا يأبهون بمستقبل هؤلاء الأطفال، تجاوزنا المشهد لنتعثر بسيارة عالقة –قيل أنها تعطلت- على الطريق فتوجب علينا الانتظار حتى إصلاحها. استغليت البقاء وعلى مرور أحد الأشخاص سألته لماذا يدرس هؤلاء الأطفال تحت أشعت الشمس الحارحة وفي العراء، أجابني وهو يخفي حزنًا في مآقيه وهو يتأوه إن هؤلاء الأطفال وأخرين ينتظرون منذ 15 عام الحصول على مدرسة وفي كل عام تخيب أمالهم ولكن عزيمتهم تظل طفولية متجددة.
صمت لوهلة وهو يقلب بصرة في المدى ثم قال يا ابني وأشار اتجاه المكان الذي كان يتجمع به الأطفال من هذا المكان صار اليوم هناك شبابٌ يدرسون في الجامعة. مثل هؤلاء الأطفال بالضبط كانوا يتنقلون من منزل إلى أخر ومن تحت شجرة إلى أخرى وأملنا فيهم بأنهم لابد أن يحنو ويتألموا لنزيف طفولتهم فيعملون لإيجاد مدرسة.
هز رأسه وتغيرت ملامح وجهه لتغدوا مكتظة بالحزن والأسى، أخذ نفسًا عميقًا وتمتم: 60 عامًا من عمر الثورة 26 سبتمبر انقضى وأطفالنا نحن الفقراء يعيشون زمن ما قبل ثورة 26 سبتمبر. حكومات متعاقبة لم نعايش منها سوى أن نكون مواطنين صالحين ندفع الضرائب والواجبات الزكوية بانتظام.
أضاف وهو يشير بيده اليمنى أنظر يا أبني في هذه البيوت القديمة عاش ويعيش وربما سيعيش اخرين مصيرُ واحد محكوم بالفقر والبؤس والحرمان، وفي المقابل أمنيات بأن يتحسن أحوالهم ويغدوا لهم مدرسة –مبنى مدرسي ووحدة صحية وطريق مرصوف وكهرباء ومشروع مياه. حتمًا سيتحقق ما يحلم ويطمح إليه الفقراء.
ودون أن يكمل كلامه غادرني وتركني غارقٌ في وحلًا من التساؤلات، كيف غدت الطريق المنسية للزمن السابق والتي تشق هذه القرية المنسية – كيف غدت شرين تتنفس منه مدينة حالمة. وأنا أعيش حزن وماسات هذه القرية تذكرت الروائي الجزائري وروايته “حارسة الظِلال” والتي يقول فيها “الفقر ليس عيبًا ولكنه جريمة يصنعها المستبدون والمسؤولين المتسلطين” في حارسة الظلال واسيني الأعرج يتحدث عن مأساة قرية في الجزائر مماثلة لهذه القرية –المُقضي محافظة تعز.
تنويه:
“من رحلة في جغرافيا وطن مسجون تحت فوهة كلاشينكوف قناص”… يبتع الجزء رقم “2”.. والذي سأنقل فيه مشاهد من مدينة كانت منارة للثقافة والتسامح والحب والعلم، وحولتها الحرب إلى مدينة مسجونة تحت فوهتا كلاشينوفا قناصين، وزئير البارود ووحشة المكان المشطور نصفين.
المشهد رقم “1” في الجزء الثاني: في وداع أخر منطقة بالدمنة، وعلى مداخل سيلة الأقروض والتي كان قد جف فيها الماء وغدت متصحرة تتناثر فيها أشجار جافة وما يشبه قصب السكر. حيث قال سائق السيارة: إن الماء كان يجري غزيراً في المنطقة حتى وقت قريب وجف فجاءة، والكل يتسأل ما السبب وكيف جف الماء هكذا فجاءة.. وتفاصيل أخرى موجعة للغاية..