- بدر العرابي
يرجع الفضل ل(أرسطو) في وضع أول نظرية للأدب ،وهذا الفضل تدين به الإنسانية كافة ،ويعد كتاب أرسطو (فن الشعر) أول مؤلف يحمل نظرية أدبية ،تناول مؤلفها الأدب كظاهرة إنسانية مفصلا القول في طبيعة الأدب ووظائفه وغاياته وأنواعه ،ولعل خلاصة تصنيف (أرسطو) للأدب قد وضعت خارطة أولية لأنواع الفن الأدبي تجسدت في تصنيفه الفنون الأدبية في ثلاثة أجناس ،لكل جنس طبيعته وماهياته ووسائله وهي: الشعر الغنائي والشعر الملحمي والشعر المسرحي ، ولم يقف (أرسطو) عند التصنيف فقط ،فقد فصل القول في قواعد وضوابط كل فن على حده ،وحدد الأنواع التي تنضوي تحت كل جنس من هذه الأجناس الثلاثة ،كالمأساة والملهاة والملحمة .
ويمكن بيان محصلة رؤية (أرسطو) للأدب من حيث المفهوم والطبيعة ،على أنه محاكاة ،وأن الأجناس جميعها تندرج ضمن هذه الرؤية بمافيها الشعر الغنائي ،وقد شدد أرسطو على الشعراء بأن يكفوا عن محاكاة الذات لأن محاكاة الذات (الغنائية) في نظره تخرج الشعر من طبيعته الأدبية ،ولاتجعله مماهيا للأجناس الأخرى ،بل وتخرجه عن طبيعته الشعرية ،وقد دعا الشعراء إلى جعل الشعر محاكيا للهم الجمعي ومندمجا فيه، مثله مثل المسرحية والملحمة ،إذ يقول: “أن سائر الشعراء يزجون بأنفسهم في كل موضوع ،ولايحاكون إلا قليلا ،أما هوميروس فيبدأ باستهلال موجز ثم يعرض على الفور رجلا أو امرأة أو أي شخص يصور خلقه ،ولذلك فمن الحق ألايتكلم الشاعر بنفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. “. ولعل هذا الطرح يبرز جليا دعوة أرسطو لتهذيب الشعر من خلال ابتعاد الشعراء عن الزج بذواتهم في الشعر والاندماج لمحاكاة العام من خلال ضم محاورين آخرين في القصيدة وحوارية خارج إطار الذات ،فهو يعد هوميروس مرجعا للشعر الحق مكتمل الأركان في إشراكه لضمائر أخرى في الحديث غير حديث الأناء . وقد أثر هذا الطرح تأثيرا واسعا في أوروبا عبر الزمن وانساق الأوربيون جميعهم إلى أطروحات أرسطو حتى أفول العصر الكلاسيكي الذي جاءت على أنقاضه الرومانسية لتحتفل بالشعر الغنائي ،إذ سمي عصرها بعصر الشعر الغنائي .
وفي ظل فاعلية أطروحات أرسطو قبل أفول عهد الكلاسيكية ،استجابت الثقافات الأوربية كافة لدعوة أرسطو ،بينما ظلت الثقافة العربية عامة والشعر العربي خاصة ،محافظة على طبيعتها وبنيتها ونسقها المرجعي ،ولعل ذلك يدل على منعة وحصانة القصيدة العربية واستقلالها ببنيتها الأصيلة والعريقة وبمدخلاتها الفلسفية والفلكلورية المغايرة وثوابتها البنيوية التي تمنعها وبشكل عفوي من التبدل والتحول،ومن ثم ظلت الذات في القصيدة العربية،هي مركز المحاكاة للواقع والوجود.
ولعل أول من سجل سبقا نقديا وتنظيريا في إيراد وبيان البون الشاسع بين القصيدة العربية والشعر الإغريقي الذي بدا منزاحا عن الوظيفة الشعرية الحقة ، التي تعد خاصة بنيوية رئيسة في الشعر _ الناقد العربي (حازم القرطاجني) إذ لاحظ اضطراب الشعر الإغريقي وظاهرة عدم النقاء النصي في طبيعته ،ليس بالمقابلة والموازنة مع القصيدة العربية ،بل من خلال خلوه من الغناء بالذات ،وانصرافه لمحاكاة التاريخ والملاحم والخرافة والأسطورة ،وطغيان الطابع الحكائي الصرف ،الذي يخلط بين طبيعة الشعر الحقة وطبيعة الحكي وسرد الخرافة والتاريخ وأخبار الدول والملوك والسياسة ..يقول (القرطاجني)في كتابه(منهاج البلغاءوسراج الأدباء : “فإن الحكيم أرسطو طاليس وإن كان قد اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونانية فيه ،ونبه على عظيم منفعته ،وتكلم في القوانين عنه فإن أشعار اليونانية إنما كانت أغراضا محدودة في أوزان مخصوصة ومدار جل أشعارهم على خرافات كانوا يصنعونها ،يفرضون فيها وجود أشياء وصورا لم تقع في الوجود وكانت لهم أيضا أمثال في أشياء موجودة… .من أمثال كليلة ودمنة ،وماذكره النابغة من حديث الحية وصاحبها ..وكانت لهم طريقة وهي كثيرة بأشعارهم ،يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه وتنقل الدول وماتجري عليه أحوال الناس وتؤول إليه”. والمتمعن في طرح القرطاجني هذا ،سيرى أن ماتوحي به هذه الفقرة المقارنة تحدد طبيعة الشعر اليوناني (وهو نبع الشعر الأوربي) غير النقية ،إذ يبدو الشعر اليوناني مبهم الطبيعة والوظيفة والغاية ،ويتكئ على شق واحد من الطبيعة الحقة للشعر وهي المحاكاة ،ويقفل وجود الذات التي تتوظف بالتخييل ،وهو الشق الثاني الذي لايمكن أن تبرز هوية القصيدة إلا به ،فالشعر اليوناني بوصف مدخلاته عند القرطاجني ،يمارس المحاكاة بآلية الملحمة والمسرحية ثم السرد (الرواية والقصة وما ينضوي تحت السرد من أشكال أدبية ) وهذا يضعنا أمام خلط وغموض وإبهام في طبيعة الشعر اليوناني ،ولعل القرطاجني حينما ذكر في الفقرة الآنفة أن لليونانيين فنونا أخرى، غير الشعر، مثلما لدى العرب ،أمثال (كليلة ودمنة ) ومثل ما أورده النابغة من حديث الحية _إنما ليظهر طبيعة الازدواج واضطراب طبيعة الشعر اليوناني ،بل وليضع سؤالا مبطنا في ذهن القارئ فحواه: (إذا كان هناك أجناس وأنواع كالملحمة والتراجيديا والكوميديا ،من صلبها ومن طبيعتها محاكاة العام عن طريق سرد الملاحم والبطولات والمحاكاة وقصص الأولين وخرافتهم وأخبار الدول والملوك والتاريخ… .فما الذي جعل الشعر اليوناني يكرر الوظيفة والغاية نفسها ويتماثل مع طبيعة المسرودات ،وما الداعي ليكون جنسا ثالثا حسب تصنيف أرسطو). ولاتقف دلالات ماطرحه القرطاجني عند ذلك السؤال وحسب ،بل تضعنا أمام ناقد يحمل رؤى تنظيرية دقيقة في مفهوم الشعر /القصيدة تمسك في معرفتها ووعيها بطبيعة الشعر /القصيدة، الدقيقة من حيث البنية وما يفترض أن يكون لها من أغراض وموضوعية مغايرة ونقية بما يميز الشعر الغنائي، عن أي جنس آخر . ولعل هاجس القرطاجني النقدي والتنظيري،لم يقف عند الإطار التنظيري الذي توقف عنده أرسطو ،بل سعى لتفكيك بنية القصيدة راصدا الأسس البنيوية التي تقام عليها القصيدة ،والتي تجعلها تنفرد بطبيعة خاصة أهلتها حتى غدت ،وبشكل عفوي، جنسا أدبيا نقديا له وظيفته وغاياته وطبيعته وأثره المغاير في المتلقي ،فالقرطاجني يعرف الشعر بأنه: “كلام مخيل موزون….. والتخييل أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه ،أو أسلوبه ،أو نظامه،وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها انفعالا من غير روية إلى جهة الانبساط والانقباض… “. يطل القرطاجني من خلال هذه الفقرة على ضفاف تنظيرية عميقة الصلة بأسرار صنعة الشعر/القصيدة ،من خلال توغله في أدق البنى التأسيسية للنص الشعري ،بل ويذهب إلى أبعد مدى حين يفسر سيكيولوجية التلقي وطقوسها في أثناء اتصال المتلقي بالنص ،والقرطاجني هنا يتفوق على أرسطو بتأكيده على (التخييل) فالتخييل في الدراسات النقدية الحديثة يعد مركز النص/القصيدة ،وهو الحامل لاستراتيجية النص ،ومن ثم فالمحاكاة كطبيعة للشعر غير كافية إذا لم يقابلها التخييل ويكون ملازما لها كوجهي الورقة النقدية .ويضع القرطاجني أسس ما عرف في النقد الحديث بالتداولية كمنهج نقدي حداثي يرى أن المعنى لاينبثق إلا من خلال التلقي ،الذي لا يتأتى إلا من خلال قدرة الناص/النص في استقطاب ذائقة المتلقي وبشكل لاإرادي ،من خلال سطوة التخييل وقوته ،التي تزيح عمل القوة المفكرة في ذهن المتلقي ،لتضع ذهن المتلقي في دائرة من الانسجام واللاوعي المحمول من هيئة ووضعية لاوعي الناص، لتضرب ذهن المتلقي في عدوى التماهي مع ذهنية الناص المتوثبة وغير المستقرة. ومن ثم فأن القرطاجني عمل على تهذيب أطروحات أرسطو فيما يخص طبيعة الشعر ،من خلال إلحاقه الوجه الآخر المنسي لطبيعة الشعر /القصيدة ،وهو التخييل ،لتستقيم طبيعة الشعر وتجعل منه جنسا مغايرا ومنمازا ومستقلا عن أي جنس أدبي آخر.
- ناقد وأكاديمي مختص بالأدب الحديث ،جامعة عدن.