- أيمان خالد
لم يكن ذلك الصوت صادرًا من المروحة القديمة التي ألقيت سمعي عليها ، ولم يكن من الخزانة المبعثرة التي فتحتها على بغتة لأتأكد ، ولم يكن من فوهة (المكيف ) الذي فقد مقدمته وامتلأ بالغبار ،لذلك شعرت بالخوف بعض الشيء.. لكنني قلت في نفسي إنني أتوهم ، ربما لأن المنزل جديد علي ، من يدري ربما !!
بيد أنني حين سمعت سقوط الكأس الزجاجية وانكسارها في المطبخ .. فزعت أجري إليها لكنني لم أجد أحدا ، مع العلم أن الكأس الزجاجية كانت على الرف -إلى الداخل – المليئ بمنازل العنكبوت ومحال أن يسقط ، حتى لو اجتمعت العناكب جميعها على ذلك .
ترى هل البيت مسكون ؟؟
ربما.. فهو قديم جدا ومن الواضح أنه لم يسكنه أحد منذ سنوات ، ماكان يجب أن أستأجره لكن ليس لدي خيار آخر ، هو المنزل الوحيد الذي يناسب معاشي .
شهر مضى وأنا أسمع ذاك الصوت الغريب الذي كان أشبه بأصوات الأشباح التي نسمعها في الأفلام .. أصبحت لا أرتاح في نومي البتة .
أخبرت صديقي حمزة بذلك الصوت ، كعادته ظل يسخر ويضحك و قرر أن يأتي ليبيت عندي يومًا ويسمعه ليثبت لي أنني أتوهم ويضحك كما يشاء !!
كانت الساعة الثانية عشرة وست دقائق حين نظرت للساعة بنصف عين وحمزة يرقد بجانبي بعد ليلة قضيناها في مضغ القات قال حمزة ” فين صوت الجني ولا سمعته “
نظرت إليه أهز برأسي رافضا أن أكون كذابًا أو متوهمًا وقلت بتلعثم ” اصبر على إيش مستعجل مابيخلوك ترقد أصلا “
ظللنا مستلقين كل منا على فراشه ننتظر صوت ” الجني ” كما سماه حمزة لكننا لم نسمع أي شيء .
همست بدهشة : صدقني يا حمزة هذا الشيطان انزعج من وجودك لذلك لم يخرج اليوم.
التفت ناحيتي وقال مازحا بانفعال : هه ألا تدري لماذا ؟ أنا أدري لأن الشياطين ترتاح مع الشياطين وتفر من الملائكة .
زفرت متأففا وقلت : إذا كنت أنت الملاك وأنا الشيطان.. كيف انسجمت معي وخزنت وأكلت ؟ هاه ؟ الشياطين تجلس مع الشياطين .
ابتسم وقال : الشياطين تحاول أن تغوي الصالحين هذا أنت تحاول أن تحولني شيطانا.. لكن هيهات محال يا عزيزي.
ثم رماني بوسادته وبقينا هكذا نضحك ونمزح حتى بزوغ الفجر..
صلينا الفجر ونمنا حوالي ثلاث ساعات ثم استيقظ حمزة وأيقظني للذهاب إلى العمل بضجر وهو يقول (هيا يا يحيى شغل شغل تأخرنا.. مارقدنا من بعد الجني حقك اللي ولا هله(
رددت عليه وأنا أفتح عينا والأخرى مغلقة ( شكلي برقد فوق الباص مااقدر افتح عيوني (
ذهبنا إلى المطعم مسرعين وعندما كنا في المطبخ لنبدأ العمل سألني حمزة على سرعة : أين هي الأصوات التي تسمعها ؟
أجبت : لا أعرف ، ثم حركت رأسي مؤكدا وتابعت : ولكنني على يقين جازم أنها كانت حقيقة .
ارتدى قفازات يديه وابتسم وهو يغمز وقال : لم لا يكون فأرا أو فئرانًا.. ؟ فذاك المنزل توقع أن تجد به جميع الحيوانات ههه
تنهدت وقلت مفكرا : لا لم يكن صوت فأر ولا فئران ، لقد كان ذلك الصوت يشبه أصوات الأشباح الذي نسمعها بالتلفاز
ضحك حمزة وهو يغلق عينيه متصنعا الضحكة المتعبة وقال : ربما كاسبر وأصحابه إذن .
قلت وأنا أتنفخ : أوف بربك لا تمزح يا حمزة.. صدق أو اصمت .
هز برأسه محاولا ألا يضحك وتابع عمله
عدت إلى المنزل في الساعة الحادية عشرة والنصف تقريبا ، وكنت منهكا للغاية أريد أن أنام فقط.. وصلت خلعت نعالي وفرشت فرشي وأطفأت الضوء واستلقيت على فرشي من دون أن أغير ملابسي حتى من فرط التعب ، غفوت ولم أشعر بنفسي لكنني صحوت مفزوعا حين شعرت أن هناك شخصًا يحاول سحبي من قدمي..
اسرعت أضأت الغرفة ولم أجد أحدا.. تنهدت بعمق وقلت في نفسي ربما من شدة التعب أتوهم
اطفأت الضوء وعدت أستلقي من جديد وغفوت.. لكن الحركة تكررت بالإضافة إلى الصوت الغريب المخيف الذي أسمعه كل يوم ، صحوت مفزوعا أصرخ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. من هناك ؟
قمت مرة أخرى وجسمي يرتعش ، أشعلت الضوء ولم أجد أحدا أيضا
كررت كلامي متصنعا الشجاعة : كفى اخرج وواجهني.. لعبة الغميضة هذه اتركها للأطفال ، أعلم أنك من الجن وأنا لا أخافك لذا أخرج وأرني وجهك , واجهني وأخبرني ماذا تريد مني ، ولماذا تضايقني ؟
لم يرد أحد.. كنت أهذي كالمجانين ، تركت الضوء كما هو واستلقيت ونمت تلك الليلة مجازا.
عندما دقت الساعة السابعة صباحا.. اخذت حماما وغيرت ملابسي ونزلت بسرعة إلى المنزل الأرضي ، منزل العم فضل ، هو صاحب المنزل الذي أجرت منه ، كنت سأقرع الباب ولكنني وجدته يفتح نافذة بقالته البسيطة ، ألقيت عليه السلام ورحب بي مبتسما وتبادلنا السؤال عن الحال ثم قلت بحيرة : اسمع يا عم فضل.. جئت أسألك ؟
قال بسرعة : تفضل يا ابني اسأل !
قلت بتلعثم : متى.. متى آخر مرة أجرت هذا البيت قبل أن تؤجره لي ؟
قال وهو يعقد حاجبيه بتعجب : هل حدث شيء.. هل ضايقك أحد ؟
قلت وأنا أهز رأسي : لالا يا عم فضل لكنه فقط مجرد سؤال.. متى آخر مرة ؟
تنهد وقال وهو يرتب علب الفاصولياء : والله يا ابني لا أتذكر جيدا ولكن كان هذا منذ زمن بعيد ربما قبل الحرب , كان رجلا شابا مثلك ، أعزب ، جلس قرابة الشهرين وفر هاربًا من دون أن يدفع ريالا ، لذلك أخذت منك مقدما ، أنا آسف ولكن أصبح الناس بلا ضمير .
قلت بنفاد صبر : لا يا عم فضل هذا من حقك.. لكن ، لكن لم هو هرب ومم هرب ، ولماذا لم يخبرك شيئا قبل ذهابه ؟
جلس على كرسيه ببطء شديد وهو يقول : لا علم لي يا ابني.. ربما هرب حتى لا يدفع المال ، لو أنه أخبرني أنه لا يملك كنت سأقدره لكنه هروبه هو ما جعلني أغضب منه.
سألتُ بحماس : وأين هو الآن ؟
رد وهو يتثاءب : لا علم لي والله.. ولماذا تسأل عنه ؟
تثاءبت بعده وقلت : لا لشيء يا عم فضل.. لاتقلق ، لكن لماذا كل هذه الفترة لم يستأجر المنزل أحد ؟
قال وهو يفرك ُ عينيه : لا أعلم ، كلما جاء شخص ونظر إليه رفضه قطعا ، ربما لأنه قديم ، أنا أيضا لا أدخله لا أدري كيف أعجبك.. ولكنني سأجمع المال وأعيد ترميمه .
قلت وأنا أبتسم ابتسامة متعبة :
_ أعجبني لأنه يشبهني ياعم فضل.. هو أنا ، كئيب وبائس ، مظلم وقاتم ، وحيد كشجرة زيتون نمت ذات معجزة في صحراء.
نظر إلي وكأنه يستمع إلى شيء مهم وقال بشرود : أهذا شعر ؟
قلت على الفور وابتسمت بلطافة : إنه أنا ياعم فضل وليس شعرا.. سأذهب إلى عملي الآن( تشتي شي.. أنا بالخدمة)
رفع يديه مسلما : الله معك يا ابني
حين وصلت للعمل أخبرت حمزة بما حصل لي وعندما شاهد فزعي وخوفي قال : ( قع رجال لا تخاف.. وبعدين حتى لو هم جن إيش خوفك ، قده ماعاد في فرق بينا وبينهم ، عادهم أحسن مننا )!
ضحكت محاولا ألا أضحك وقلت : يبدو أنك منهم يا حمزة..
ضحك حمزة وقال : أتمنى ذلك
حين انتهيت من العمل ودعت حمزة وعدت للمنزل وجدت العم فضل يجلس على كرسي أمام بابه ودكانه الصغير مغلق ، استغربت!
فالعم فضل يغلق دكانه وينام باكرا.. سمعت مرة أحد الجيران يقول( لازم العم فضل يكتب فوق بقالته.. بقالة العم فضل الصباحية ، مافيش يوم حصلته فاتح بعد المغرب )
سلمت عليه ورد السلام ونهض من كرسيه وقال :
_ ولدي يحيى كنت أنتظر قدومك
قلت بقلق :
_ خير ياعم فضل.. أحدث شيء ، هل تريد الإيجار الآن ؟
رد والنوم يكاد يغلق عينيه :
_ لا لا.. لكن تذكرت شيئًا بخصوص سؤالك الصباح ، وقلت سأخبرك به.
نظرت إليه بذهول ودهشة وقلت :
_ تفضل ياعم
العم فضل : أ تذكر قبل يوم من هروب المستأجر جاء إلي وسألني هل سكن أناس قبلي بالبيت باسم زاهي وزاهية قلت له سكن أخي فترة قصيرة وذهب وحين سألته عن السبب قال لي أن رأى اسمين منحوتين على جدار المطبخ ، قلت له ربما أخي الذي كان في المنزل قبلك على الرغم من أنه لم يكن اسمه زاهي وحين عرف قال لي إذن ليس هو من كتب.. قلت له من إذن جني!! شهقة شهقة ولم ينطق بكلمة وصعد يجري إلى الأعلى ، ومن يومها لم أرَ هذا الرجل البتة
قلت بتوتر :
_ زاهي وزاهية ؟ حسنا يا عم فضل شكرا لك..
قال :
_ أخبرتك.. لأني خشيت أن تهرب أنت أيضا بالغد ، لا خشية على المال ، ولكن يشهد الله أني أرى فيك ولدي محمد هو في سنك وأيضا يتحدث بالطريقة نفسها التي تتحدث بها ، لكنه توفي بالحرب.
قلت بارتباك :
_ أوه.. رحمة الله عليه ، لا تقلق يا عم فضل.. أنا سأظل هنا إلى أن أموت ، لا مكان لدي غيره ، اذهب لنومك يا عم حفظك الله
قال وهو يتهيأ للدخول إلى منزله :
_ حفظك ورعاك وستر عليك.. تصبح على خير يا ابني
_ وأنت من أهله
نهضت إلى المنزل وذهبت مسرعا إلى المطبخ ، وفعلا شاهدت الاسمين منحوتين بطريقة غريبة , لا أعلم لماذا تسارعت دقات قلبي واستلقيت على فراشي بعد أن أطفأت الضوء , لم ألبث إلا ثواني حتى شعرت بيد تخنقني بقوة , حاولت أن أصرخ لكنني لم أستطيع , سالت دموعي وكأنها تسيل لآخر مرة , وبصعوبة بالغة عدت أتنفس من جديد ورحت أجري لأشعل الضوء ولكن الصوت المخيف جاءني قبل يقول : إذا كنت حقا لاتخاف دعنا نتحدث هكذا .
كدت أسقط مغشيا علي لكنني حاولت أن أتمالك نفسي وأجمع قوتي وقلت وصوتي يرتعش : حسنا
ثم قلت بعد صمت : من أنت ؟ هل أنت زاهي ؟ ول ولماذا تضايقني ؟
قال : لا تسأل .. أنت ترحل فقط من هنا , هذا المنزل لي ولذكرياتي التي لا أفرط بها .
قلت والعرق يتصبب : لن أخرج .. ليس لدي مكان أذهب إليه , أنت الذي يجب أن تغادر .
فجأة سمعت نحيب امرأة , كان نحيبها كناي حزين .. قالت : لن أتركه , إذا تركته يعني أنني خنت زاهي .
قلت بدهشة : ومن أنتِ ؟
قالت وهي تبكي بمرارة محاولة أن تهدأ : أنا هي زاهية التي تضايقك كل يوم حتى ترحل وتترك المنزل , أنا هي التي تحاول أن تخيفك بصوتها كي تخاف وترحل , لكن صدقني كل هذا كان من أجل من أحب .
قلت بانفعال كبير : لم أفهم شيئًا .. ماذا تريدين مني لماذا تريدينني أن أترك المنزل ؟
هدأت قليلا ثم قالت : أظن أنك أدركت أنني من الجن , كنت أحب شابا من الجن ونعيش قصة حب جميلة تبكي لها الحجر, وكان هذا المنزل هو ملاذنا , لم يسكنه أحد كان لنا فقط .. وتعاهدنا أن نحتفظ بذكرياتنا فيه نعيش ونموت فيه ..
وحين جاء الرجل الذي قبلك ليسكن تضايق زاهي كثيرا وحاول أن يخرجه بطريقته الخاصة .. وحين فر هاربا هذا الرجل أخذ معه علبة الأماني التي حفرنا عليها أمنياتنا أنا وزاهي , فلحقه زاهي ليلقنه درسا لن ينساه كما قال لي ولكنه لم يعد الآن ولا أعرف شيئا عنه , مازلتُ أنتظره بالمكان نفسه والحب نفسه الشوق نفسه واللهفة نفسها , ليعلم أنني لم أخنه البتة .. ولا أريده أن يأتي وأنت هنا , ليعلم أيضا أنني باقية على العهد .
قلت بهدوء شديد : ماكنت اتوقع أبدا أن الجنيات تحب هكذا وتخلص هكذا .. هل تعلمين أن حبيبتي تركتني وتزوجت بآخر لأنني قلت لها اصبري علي سنة لأتقدم لك.
منذ زواجها وأنا تركت فكرة الزواج كليا, جميع النساء هنا خائنات , يسعين وراء المال والثراء . ليتني كنت أجد فتاة تحبني مثلما تحبين زاهي .
قالت بصوت منخفض : لايهمني كل هذا مايهمني هو أن تجيبني عن هذا السؤال .. هل ستترك المنزل أم تريد أن تندم ؟
قلت مؤكدا : سأتركه .. أعدك يا زاهية بأنني سأتركه , ولكن.. عندي طلب بسيط ليتك تنفذينه لي.
قالت بسرعة : وما هو ؟
قلت ببهجة : بربك يا زاهية ( شوفي لي عروسة من عندكم )