- كتب: طارق السكري
قصيدة الحريقُ السجين لعبدالله البردوني ١٩٦٣ محاولة للخروج من رتابة الإيقاع الخليلي وكأن القارئ يشتم في دفقها الشعوري محاولة لكتابة شعر التفعيلة يستهلها :
هناك وراءَ الأنينْ
أنينُ الترابِ حريقٌ سجينْ
هذا هو الترتيب الذي نراه طبيعيا ومتوافقا مع نظام شعر التفعيلة لأن كلمة الأنينْ في مستهل القصيدة ساكنة كما هو موضح أعلاه
وإلا فهي في الديوان هكذا :
هناك وراءَ الأنينْ
أنينُ الترابِ
حريقٌ سجينْ .
ثم يقوم بالاعتماد على ستة تفعيلات من بحر المتقارب بدلا من ثمان .
وهذا يعني أن التنويع الموسيقي في القصيدة وفتح آفاق جديدة لقدرات اللغة الشعرية كان هاجسا لدى الشاعر ولدى الكثير من شعراء عصره .
نعم قد تكون هذه المحاولة مغمورة في تجربته الشعرية إلا أنها محاولة تنم عن إدراك الشاعر للمتغيرات من حوله واحتياجات القصيدة للتجربة والمغامرة . إن لم يكن حب المغامرة وتذوق حلاوة التجربة فما الذي يجعل شاعرا من طراز البردوني يعزف على أكثر من قافية في القصيدة الواحدة ؟
ليس هو الهروب من الوزن أو القافية بل هي استجابة لنداء داخلي .. أقول ربما .
هناك وراء الأنين
أنين التراب
حريق سجين
يهدهد خلف امتداد .. الغيوم صباحا دفين
يمدّ نهود أغانيه .. يرضعن حلم الأنين
وتخضرّ بين جناحي .. صداه رمال السنين
على وجهه من سهاد .. اللّيالي ذهول حزين
وجوع إلى لا مدى .. حنين ينادي حنين
***
وشوق يفتّش في كلّ طيف .. عن الجنّة الضائعة
وينهض من عثرات التراب .. منى ضارعة
ويحسو الفراغ ويسقيه .. أغنية رائعة
ويستودع الريح أنفاس .. رغبته الجائعة
***
ويوقد أشلاءه للرؤى .. والصدى العائدِ
ويطمع أن يستفزّ ضمير .. الدجى … الحاقد
وحشرجة الشهب فيه .. بقايا دم جامد
ويعطي عيون الجليد .. رؤى الموسم الواعد
وتعوي الرياح فيخفق .. كالطائر البارد
ويعيا جناح فيسمو .. على جانح واحد
***
يدلّل فوق انتظار .. الربى منية كادحة
ويسقى الحنان قبورا .. هناك معذّبة صائحة
تعالج أوجاعها المعضلات ” بياسين ” و ” الفاتحة ”
و تخشى خيال الشروق فتغلق حفرتها النازحة
وقد ينذهل القارئ وهو يمر على أمثال هؤلاء الشعراء الكلاسيكيين العظام .. الذين ظلوا لآخر نفس في حياتهم يحافظون على الشكل الشعري القديم .. عندما يعثر القارئ على قصيدة تفعيلة كما لدى آخر البلاغيين العرب الشاعر العراقي محمد محمود الجواهري الذي لم يحافظ فقط على الشكل الشعري القديم بل ظل محافظا على طريقة التعبير ورسم الصور الشعرية ذاتها كما هي في مفهوم البلاغة القديمة
ومع ذلك تعثر على أكثر من تجربة لكتابة قصيدة التفعيلة في مجموعته الشعرية الكاملة قد تصل إلى خمسين نصاً مما يعلي من هذا اللون الشعري . شعر التفعيلة .
طارق السكري